الشهيد الواحد
بعد المليون ونصف المليون شهيد
ولد بمدينة
بريان، ولاية غرداية في وادي مزاب، جنوب الجزائر، إنَّه: حمُّو بن الحاج يحي
الواهج
ولد وعاش
طفولته تحت رعاية أمِّه السيِّدة: منَّة بنت قاسم موسلمال، في غياب والده الذي كان
منشغلا بالثورة التحريرية، يتنقَّل بين تونس الشقيقة والجزائر المجاهدة، يعمِّر
الجزائر تاجرا، ويخدمها وثورتها مجاهدا في نقل البريد الثوري الخطير بين قيادة
الداخل والخارج في تونس.
فهو ابن الرجل
المسلم الممتلئ وطنية وتديُّنا حيث رفض التجنيد الاجباري نأيا بنفسه أن يحمل
السلاح يوما في وجه إخوانه في الدين وفي الوطن يوما مَّا.
وهو ابن الرجل
العامل الذي ظلَّ تاجرا جالبا إلى بلده الجزائر ما يساهم في اقتصادها، وينشِّط
حركتها التجارية لأربعة عقود كاملة.
وهو ابن الرجل الوطنيِّ الذي رافق وناصر الحركة الوطنية، وأحبَّ رجالها المخلصين في تونس كما في الجزائر، أمثال الشيخ أبي اليقظان وصحافته، والشيخ صالح محمَّد الصدِّيق، والشيخ إبراهيم بيُّوض.
وهو الرجل
الذي، أحبَّ العلم والعلماء واستشرف للجزائر استقلالها، فعمل جاهدا على اصطحاب
طلبة العلم من مزاب إلى جامع الزيتونة والمعاهد العلمية بتونس، دعوة ودعاية،
ومرافقة، وتهريبا عند غلق الحدود بين البلدين سنة 1956م.
وشاء الله
تعالى أن يذهب ولده شهيدا في يوم الاستقلال الوطني الخميس 05 جويلية 1962م، في
خضمِّ الاحتفالات الأولى للاستقلال، حيثُ كان جالسا وهو ابن ثماني سنوات بين
أقرانه وأترابه وزملائه يتابعون الأفواج الكشفية الشبَّانية بلباسهم الجميل
وحركاتهم المنتظمة الرتيبة، ويتفرَّجون على استعراض الخيل وأصوات البارود المنطلقة
من فوهات قنابل الفرسان في ساحة "بودواية" خارج البلدة.
وكان الاحتفال
حماسيا وممتعا جدًّا لكلِّ الحاضرين، سواء القائمين بالاستعراض، أو الحاضرين
المشاهدين من المواطنين، شبابا وكهولا وشيوخا.
وفي قمَّة
الفرحة بالاستقلال، والمتعة بالمشاهد الجميلة، وضجيج الفرقة النحاسية الكشفية،
وطلقات البنادق المدويَّة، ورائحة البارود الذكية، ورواح وغدوة الخيل والفرسان
فوقها، إذا بفرس هائجٍ هائمٍ ينحرف عن المسار المراد لها ليدخل إلى حيث الجماهير
مصطفَّة جلوسا، فجاء حافره مباشرة على رأس الشهيد "حمُّو بن الحاج يحي
الواهج".
وأجدني جدُّ
متأثِّر بالمشهد الذي صوَّره أحد الحاضرين الأستاذ الفاضل: امحمَّد بن إبراهيم
عبُّود في مذكِّراته حيث يقول فيها: -"في بريان اندمجتُ في فرقة الكشَّافة وأحيينا حفلات عيد
الاستقلال 5 جويلية وكنّا جالسين جميعا
في ساحة "لالّة ساهلة"، وكان بعض الفرسان يستعرضون في سابقات الخيل ذهابا
وإيابا بين الساحة وثكنة الجيش الفرنسي(C A S) في جولة من السباق، فصدم أحد الفرس مبنى الثكنة برأسه ورجع بسرعة
فائقة وتهجَّم علينا ونحن قاعدين على الأرض، فلطم بحافره رأس "الابن الواهج" وهشَّمه حتَّى
خرج مخُّه، فأسرعنا به إلى المستشفى وكان فيه طبيب فرنسي وهو ضابط فرفض استقبالنا لأنّه كان متذمِّرا عن تمزيق
علَم فرنسا من طرف بعض الشباب، فمات "الابن الواهج" بعد دقائق، وعمَّ الحزنُ الجميعَ وعُلِّق
الاستعراض[1]."-
في ذلك اليوم، وفي
تلك اللحظة، كان الوالد "رحمه الله" في الحدود مع الجمهورية التونسية
يستقبل الطلبة الذين كانوا في تونس ولم يستطيعوا العودة إلى الجزائر قبل الاستقلال
بسبب غلق الحدود، ووصل الخبر إلى الطلبة واحتاروا كيف يخبرون والد الشهيد بالحادثة
والمصيبة.
ويقول عنها الأستاذ
عبد الوهاب بكلِّي أحد الطلبة القادمين من تونس يوم الاستقلال: -"وفي خضمِّ الاحتفالات الشعبية في بريان وقعت حادثة أليمة
ذهبَ ضحيتها ابن عزيز لعمٍّ عزيز وهو المرحوم الواهج حمَّو بن الحاج يحي بن حمُّو،
إذ فزعت إحدى الخيول بقوَّة دويّ البرود فانحرفت عن مسارها لتصطدم بالحضور، وتترك
مجروحين والضحيَّة المذكورة. تأسَّف لذلك كلُّ الناس وعكَّرت نوعا ما احتفالات
الاستقلال. وتشاء الأقدار أن يكون والده العزيز غائبا عن بريان في مهمَّة جليلة
وهي اصطحاب الطلبة الراجعين إلى بريان[2]"-
إلى أن يقول: -"وبالفعل لقد كنت معه رفقة المرحومين زيطاني الحاج محمَّد
وسالم الحاج محمَّد قاصدين الحدود لكن لـمَّا بلغنا الخبر المؤلم غيَّرنا الوجهة إلى
قسنطينة لننتظر الوافدين. وكم كان ثقيلا وعصيا عليَّ إذ كلَّفني صاحبيّ بإبلاغه
الخبر الفاجعة[3]."-
وفي مثل هذا اليوم "05 جويلية" من كلِّ سنة، كانت الوالدة تستحضر الحادثة بتأثُّر كبير،
كأنَّها تعيشها توًّا، وهي تحكي قائلة: -"كنتُ يومها وساعتها في حوض غسل الصوف "بوخمزة"
وأبوكم غائبٌ عن البلدة، فجاءني الخبر كالصاعقة، ودارت بي الدنيا ما دارت، ولـم
أعرف ماذا أفعل وكيف أتصرَّف أمام هذه الفاجعة، وكثرت الاشاعات والادعاءات، من قول
مات الطفل، أو لـم يمت، أو قُتل عمدا، أو قتل خطأ، أو ...، أو ..."-. كانت تقول هذا وأكثر بتأثر بالغ، ودموع منهمرة المشهد لا يزال
حيًّا، وتعدِّد مواهب ابنها، وذكاءه الوقَّاد، وأملها وأمل والده فيه.
وقد وثَّق الشيخ عبد
الرحمن بن عمر بكلِّي في مذكِّراته بقوله: -"حادثٌ مؤلم وقع صبيحة يوم الخميس 05 جويلية 1962م في
سباق الخيل ببودواية بمناسبة عيد النصر، حادث مؤلم. ذلك أنَّ فرسا جمحت فدخلت وسط
جمهور المتفرِّجين فخرَّت ساقطة بينهم، فهشَّمت بحافرها رأس الابن الواهج حمُّو بن
حاج يحي فمات لحينه وجرح الآتية أسماؤهم: ابن يامِّي محمَّد بن بالحاج، كروشي صالح
بن عليّ، ابن زايط حمُّو بن يوسف، العساكر علي بن إبراهيم، وبعوشي بن موسى جروحا
تختلف بين بليغة وخفيفة!!! والأمر لله[4]."-
فقد مات شهيدا في
ساحات الاحتفالات فرحا بالتحرير والاستقلال، كمن مات شهيدا في ساحات الوغى من أحل
التحرير والاستقلال.
بقلم: يوسف بن يحي الواهج
بريان: 30جوان 2024م
قصة مؤثرة، سبحان الله أول مرة أسمع بها، رغم أنني من بريان، ولي صداقة مع أبناء الحاج يحيى الواهج، شكرا لك الحاج يوسف، حفظك الله ومتعنا بمنشوراتك.
ردحذف