الجمعة، 16 فبراير 2024

 

حديثُ أمٍّ عذراء

    -"أنا آنسة في الستين، عشت حياتي الطويلة المريرة كالكوبرى الممدود عبر ثلاثة أجيال، لـم أعرف الحبَّ ولا الزواج.

    في العاشرة كنت أحمل أخي الطفل وأغنِّي له، وفي الثلاثين كان الطفل قد كبر وتزوَّج فحملتُ أطفاله، والآن وقد كبر أطفال الأطفال وتزوجوا. وبدأتُ أستقبل على صدري الهضيمِ الضامرِ أبناءهم لأعْـبُر بهم السنين الباقية من حياتي.

    أنتَ لا تعرف معنى أن تعيش على الشاطئ، وتقضي في الحرمان ستِّين عاماً وأنت عطشان! لا يمكن أن تعرف هذا لأنَّك لـم تجرِّبه، فأنت رجل.

    وفي صباي كانوا يقولون: إنَّ الرجال خُلِقوا للشارع والمدرسة، والنساء خُلِقنَ للمطابخ.

    وكان أبي المتوسط الحال يحلم بتريبة أولاده في الجامعة، وكان ثمن هذا الحلم بعد أن ماتت أمِّي أن أظلَّ في البيت لا أبرحه. أطبخ، وأغسل، وأمسح البلاط، لأوفِّر ثمن خادمة، وطاهية، وغسالة، وأعاون أبي على تحقيق حلمه الكبير.

    كنتُ الثمن الذي دفعه جيلُنا من لحمه ودمه، لتدخلوا الجامعة وتتعلَّموا، وتقولوا للعالـَم: نحن الرجال.

    ‏وقد كنتُ سعيدة بهذه التضحية، كنت أمَّاً عذراء لأجيال ثلاثة تربَّوا على صدري، لكنَّني الآن وقد تغــــيَّرَت من حولي الدنيا، أحسُّ أنَّني غريبة في عالَـم غريب؛ عالَـم مليء بالثرثرة والغرور والحب والإلحاد والثورة.

    بناتي وصبياني الذين ربَّيتُهم ومنحتُهم شبابي وعمري، ينظرون إليَّ كأنَّهم ينظرون إلى تحفة أو أنتيكة، ويسخرون منِّي لأنَّني لا أفهم الوجودية والسياسة والحب ويضحكون عليَّ.

    لقد انتهت دولتي، ومطبخي الصغير احتلَّه الطاهي، ولـم يبق لي سوى البكاء في صمت إلى جوار النافذة.

    ‏كنتُ أطمع في شيءٍ واحد هو: "التقدير" ولكن حتَّى هذا لـم أحصل عليه، كم أنا تَعِسَة.

النصُّ منقول بأمانة دون تصرُّف، إلاَّ العنوان من وضعي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق