
من أهل
الدثور والأجور: 01.
"أهل
الدثور" في كلِّ مجتمع هم ظهره وسنده، والمعتمد عليهم في الملمَّات،
والأيادي الطولى في إنجاز المشاريع الكبرى، فهم في مجتمعنا المزابي والبرياني
خصوصا، كما كان أمثالهم في صدر الإسلام، الذين قال عنهم أناسٌ من أصحاب رسول الله
صلَّى الله عليه وسلَّم للنبي عليه السلام: -"ذهبَ أهلُ الدثور بالأجور،
..."-.
فحريٌّ بنا اليوم في بريان، أن نذكرهم -أو بعضهم- بالكلمة الطيِّبة، تثمينا لأدوارهم في المجتمع، وتعريفا بهم للأجيال المترادفة على أمل أن يكونوا لنا ولهم قدوة ومثلا. وهذا أحدهم:
خيِّر الخيِّرين
الحاج صالح بن الشيخ عبد الرحمن بكلِّي*
"الحاج صالح بكلِّي" (رحمه الله)، رجلٌ كتبَ الله له الخلود في الذاكرة الجماعية الحديثة في بلدة بريان الطيِّبة العامرة، ورَسْمَ ذكرِه نقشا في السجلِّ التاريخي للمجتمع؛ فقد ترك آثارا ناطقة في ألسنِ الخلق، وأخرى شاهدة على فضله قائمة هنا وهناك في أوساط البلدة، وعلى أطرافها، ولا تخفى عن كلِّ نظرٍ وبصرٍ وبصيرةٍ. فمن واجبنا
نحنُ الجيل الذي عرفه عن قربٍ، مشاهدةً، ومعاشرةً، ومعاملة، أن نعرِّف به
لأبنائنا، وشبابنا، ومن يأتي بعدهم، ليعيش بينهم عمرَه الثاني، فيكون لهم القدوة
والمثل في السيرة الحسنة، وحسن السلوك، كرم الأخلاق، وعلوِّ الهمَّة، وإخلاص العمل،
ورفع راية الدين والوطن.
فهو، السيِّد
الفاضل: الحاج صالح بن الشيخ عبد الرحمن بن عمر بكلِّي (رحمه الله).
v النسب والمولد والنشأة:
هو: بكلي صالح بن الشيخ عبد الرحمن بن عمر بن عيسى بن حمو بن باحمد بن عيسى بن بكلي بن يحيى. من "عشيرة آل بنورة والعطف" في بريان، وعشيرة "آل عبد الله" في مدينة العطف (تَجْنِينْتْ) سليل العائلة الكريمة النبيلة، كرمَ العلمِ، ونبلَ الأخلاق، ووقادةَ الذكاء والنباهة؛ إنَّها عائلة "بَكَلِّي".
وُلدَ في الحيِّ العتيق من وسط مدينة بريان
العامرة، في ولاية غرداية، يوم: السبت: 12 رجب 1361ه، يوافقه يوم: 25 جويلية 1942م.
وفي نفس الحيِّ دَرج ولعبَ، في أحضان الأسرة
الكريمة على تربية صحيحة، تحت رعاية أبوين صالحين متديِّنين، ملتزمين بشرع الله
وقواعد التربية الإسلامية الصحيحة؛ فالأبُ حافظٌ لكتاب الله، فقيه بشرع الله، يعلِّم
الأجيال في مدرسة قرآنية، ويعتلي منبر الوعظ والإرشاد في المسجد؛ ومن جهة أخرى في
البيت أمٌّ صالحة مستقيمة، سليلة بيت عائلة العلم والفضل والخير، وزوجة الرجل
العالِم الفقيه المصلح. فليس غريبا أو عجبا أن يكبر "صالح" صالحا
مصلحا متأثِّرا بالبيت الذين نشأ فيه، والأبوين الذين غرسا فيه كلَّ شيءٍ جميل.
ولا ننسى الحيَّ الذي درجَ فيه صبيًّا، ودبَّ فيه طفلا، ورافق فيه الصغار جوارا، وزامل فيه التلاميذ دراسة، فكان له الحيُّ، والجوار، والدرب، بيئة صالحة بصلاح المتساكنين المتجاورين، ساهمت كثيرا في تكوين شخصيته المتوازنة، وملئها بالقيَم الدينية الصحيحة، والمثُل الاجتماعية الأصيلة.
v طلبُ العلم والدراسة:
لـمَّا بلغ من العمر ستَّ سنوات، ألحقه والده بمدرسة "الفتح القرآنية" حيث بدأت مرحلته الدراسية، وانطلق في رحلة طلب العلم والمعرفة، فحفظ ما تيسَّر من القرآن الكريم، والأحاديث النبويَّة الشريفة، وأساسيات اللغة العربية وآدابها، وتاريخ الإسلام من السيرة النبويَّة الشريفة، وفجر الإسلام وظُهره وضحاه، وسير السلف الصالح، إضافة إلى دروسٍ في الأدب والأخلاق، على يد الأساتذة الأفاضل:
-
الشيخ محمد بن بالحاج
ابن يامي.
-
الشيخ محمد أولاد داود
البرياني.
-
الشيخ عبد الرحمن بن
عمر بكلي.
وإلى جانب الدراسة في المدرسة القرآنية "الفتح"، التحق أيضا بالمدرسة الرسمية الفرنسية آنذاك "مدرسة النخيل"، لينال نصيبة من الدراسة العلمية العصرية، في اللغة الفرنسية، والحساب، والجغرافيا، والتاريخ الفرنسي، إضافة إلى علوم الفلاحة والزراعة نظريا في فصول الدراسة، وتطبيقا في جنان المدرسة.
v في ميادين التكوين:
بعدما أنهى دراسته الابتدائية والمتوسِّطة، توجَّه إلى العمل مباشرة كأيِّ شابٍّ في مجتمعه الذي لا يقبل بطَّالا في صفوفه، ولكنَّ نفسُه الطموحة تاقت إلى التعلُّم بعد سنتين من العمل في مسقط رأسه، فانتقل إلى الجزائر العاصمة وتكوَّن في حرفة النجارة في حسين داي، ثم التحق بمدرسة التكوين المهني في القبَّة حيث تحصَّل على شهادة التخصُّص في النجارة سنة 1959م. وفي يوم 04 نوفمبر 1967م، انخرط في مكتب بيغي
Begue)) لتعلُّم
مسك الدفاتر أو "المحاسبة" كما يُطلَق عليها الآن، على الطريقة الاستعجالية
(Accélérée)، برنامج
ثلاث سنوات تُختصر في سنة واحدة، وتكون الدراسة مساء، فاستغلَّ الصباحات للعمل في
مكتبة آل أولاد داود في حيِّ بلكور (la page)، وبعد فترة قصيرة تحوَّلت الدراسة إلى الليل، فيبقي النهار كلُّه
للعمل في المكتبة1.
وهذا حرصا منه، وبتوجيه من والده لاستغلال
أوقاته فيما يفيده ويزيده علما ومعرفة ومكسبا، وإبعادا له عن الفراغ المفسدة والانشغال
بما لا ينفعه، أو قد يضرُّه لا قدَّر الله؛ وهكذا كان ديدن الأولياء في ذلك الزمن
الجميل، عكس أغلبهم في هذا الزمن الرديء.
v في ميادين العمل:
بدأ العمل بدايةَ في النجارة أجيرا لبضع سنوات قبل حصول على شهادة التخصُّص في النجارة، وبعدها جاءته فرصة العمل في مدينة "أﭬَــادِير بالمملكة المغربية"، غير أنَّ والده لـم يرض له بالعمل هناك، وقال له:
-
إنَّ دراستك وتكوينك
كانا من أجل بناء وتشييد وطنِك، وبلدتُك أولى بكَ من كلِّ مكانٍ في العالم.
فرجع إلى مسقط رأسه بريان،
مرضاة لوالده الشيخ عبد الرحمن مقتنعا بنصيحته وتوجيهه؛ فاشتغل مع السيِّد الفاضل:
الحاج إبراهيم محرزي (رحمه الله).
وابتداء من سنة 1963م، ارتقى إلى شريكٍ في
تسيير المحلِّ الخاصِّ بالنجارة، رفقة السيِّد الحاج داود صالح والحاج، والسيِّد
سليمان الطالب باحمد.
وبعد سنتين، أي في سنة 1966م، أصبح هو
المسؤول الأوَّل على تسيير محلِّ "النجارة العصرية" إلى سنة
1984م.
وفي سنة 1982م، أدار دكانًا للأواني والأفرشة
"سوق الواحات" إلى سنة 1984م.
وفي سنة 1984م أسَّس مع شركاء له، "شركة
صناعة الخيوط"، إلى أن توقَّف نشاطها سنة 1987م.
بعدها استقرَّ به الحال في إدارة شركة "محطة
تفتيت الحجر" ستَّة وعشرين سنة تقريبا، من سنة 1987م إلى سنة 2013م.
v بين الرياضة والثقافة والسياسة:
كان (رحمه الله) شعلة نشاط وحيويَّة منذ نعومة أظفاره، فلـم يتوانَ من الانخراط في صفوف "الكشَّافة الإسلامية الجزائرية" في الخمسينيات من القرن الماضي، وهو تلميذ بمدرسة الفتح، وتدرَّج فيها كما يتدرَّج الجندي في صفوف الجيش، حتَّى أصبح رئيس طليعة، تحت قيادة أستاذه فيها: عمر بن عطيَّة مغازي، وكانت تلك السنوات فترة ذهبية في تاريخ الكشَّافة الإسلامية في بريان.
وكان عضوا في جبهة التحرير الوطني ممثلا للشباب
"شبيبة جبهة التحرير" قبل الاستقلال وبعده.
وفي الستينيات من القرن الماضي، كان لاعبا
نشطا في كرة القدم، وتولَّى رئاسة فرع كرة القدم في جمعية "الجمعية
الرياضية البريانية" (A.S.B). وقد كان لهذه الجمعية الرياضية، وفريقها لكرة القدم نشاط كبير داخل
البلدة وخارجها، جمع الشباب حوله، وحرَّك هممهم لصناعة مجدٍ رياضيٍّ للبلدة
والمنطقة.
وفي السبعينيات من القرن الماضي، كان له نصيب
ودور في مزاولة "رياضة الجيدو"، التي كانت تمارَس وتدرَّب في
عشيرة آل بنورة والعطف ببريان.
وفي الثمانينيات من القرن الماضي انتخبَ عضوا
في "المجلس الشعبي البلدي" في بريان، مسؤولا عن الأشغال العمومية
في العهدة الأولى لرئيس المجلس: الأستاذ: باحمد عمر أيوب.
وكان له دور فعَّال متميِّز في عشيرته "آل
بنورة والعطف" كفردٍ من أفرادها، وأكثر اـمَّا أصبح عضوا في إدارتها
لعدَّة سنوات.
كما كان عضوا في الجمعية العامَّة "لجمعية
الفتح"، ثمَّ عضوا في إدارتها تحت رئاسة فضيلة: الشيخ عبد الله بن الشيخ
صالح الطالب باحمد (حفظه الله)؛ وقد أبلى فيها البلاء الحسن، بما قدَّم من جهود
كبيرة في إنجاز العديد من مشاريعها.
v مشاريع البناء التي أشرف عليها:
كان المرحوم "الحاج صالح بكلِّي"
مشرفا وقائما بحرصٍ كبيرٍ، وجهودٍ عظيمةٍ لا يقدِّرها حساب، ولا يعدُّها لسان، ولا
يحصيها كتاب، وهي عند الله تعالى محفوظة في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، وستبقى
في البلدة والمجتمع تحمل ذكره وذكراه. نذكر من هذه المشاريع، مع ذكر تاريخ نهاية
أشغالها:
-
مشروع بناء مسجد صرعاف،
سنة 2000م.
-
المدرسة القرآنية في صرعاف،
سنة 1994م.
-
مشروع مصلى تحفيظ
القرآن الكريم، سنة 2001م.
-
مشروع بناء مقبرة حي الشيخ
عامر الشمَّاخي، سنة 2011م.
-
مشروع بناء مَجمَع
الفتح الجديد، سنة 2012م.
-
مشروع دار القرآن: "المركب
العلمي للشيخ عبد الرحمن بكلي البكري"، سنة 2014م.
-
ترميمُ وصيانةٍ دورية
ودائمة للمقبرة الرئيسية بوسط المدينة.
- إنجاز منبر صلاة الجمعة بالمسجد العتيق في حيِّ بربورة، يوم: 30 جويلية 1970م. نال رضا الجميع، سيما مجلس العزَّابة2.
v مناقبه وصفاته:
يعجز اللسان عن ذكر صفاته وأخلاقه ومميِّزاته، فهو بكلِّ صدق يتميَّز بخلالٍ فيها الكثير من الوعي، والرشد، والنظرة الاستشرافية، فهو إلى جانب التواضع، والأخلاق الفاضلة، والاستقامة، يتمتَّع بنشاط وحماس للخير كبيرين، ذو همَّة عالية لا تخبو، مستشرفا مستقبل أمَّته وبلدته، يخطِّط لها، ويقترح على ولاةِ أمرِها ما يصلُح بها، صبور إلى أقصى الحدود، كتوم قليل الشكوى، يحبُّ شباب بلدته، ويسعى إلى تعليمهم، وتكوينهم، وتشغيلهم، و...، و...
v وفاته:
في يوم الأحد 04 شوَّال 1442ه، الموافق ليوم 16 ماي 2021م، آثره الله إلى جواره الكريم، ليلحق بما قدَّم من خير وفضل كبيرين في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى، وسبيل نشر العلم والمعرفة.
وترك بعده زوجة بارَّة وفيَّة، وذرِّية صالحة
بارَّة: عبد الله، محمَّد، عائشة، مامَّة، سيكونون له بكلِّ تأكيد العملَ المتواصلَ
إن شاء الله تعالى، كما قال رسول الله صلَّ الله عليه وسلَّم: -"إِذا ماتَ
ابنُ آدم انقطع عمله إلاَّ من ثلاث، صدقةٍ جاريةٍ، أو علمٍ يُنتفع به، أو ولدٍ
صالحٍ يدعو له"-.
رحمه الله برحماته الواسعة، وأسكنه فسيح
جنَّاته، وجمعه بابنه "عمر" ووالده الشيخ عبد الرحمن في جنَّة الخلد مع
الصدِّيقين والنبيئين والشهداء والصالحين وحسن أوليكَ رفيقا. آمين.
*- المصدر: - أغلب المعلومات عن
الشخصية: حفيد الشخصية الأستاذ: إبراهيم بن عبد الله بكلِّي.
1-
الشيخ عبد الرحمن
البكري، مقتطفات من مذكرات البكري، ص: 538.
2-
المصدر السابق، ص: 556.
بقلم:
يوسف بن يحي الواهج
بريان:
07 فيفري 2023م
شكرا جزيلا على هذا التعريف. تقبله الله منكم وجزاكم خير الجزاء.
ردحذفللاثراء الذي اعرفه أنه لم يدرس مستوى المتوسط. والدعرف أيضا أنه حين التحق بالنجارة كان حرفيا لدى القائد اوراغ وله صورة تجمعه به وبالسيد صالح الحاج داود كتذكار للمعلم وتلامذته.
السلام عليكم ورحمة الله.
حذفشكرا على إثرائكم ومعلوماتكم، نعم قبل النجارة كان يشتغل في شكرة محرزي الحاج إبرهيم ومن معه، ومنهم القائد أوراغ رحمه الله.
وددتُ لو تفيدنا بالصروة التي ذكرتموها مع السيد صالح والحاج داود.
شكرا على التعليق المفيد، والمرورالكريم.