الثلاثاء، 21 يونيو 2022

كتابات أدبية: قدوة المتقاعدين: عبد الوهاب بن الشيخ عبد الرحمن بكلِّي.

                              قدوة المتقاعدين: عبد الوهاب بن الشيخ عبد الرحمن بكلِّي.

    لم يكن الأوائل (رحمهم الله) يعرفون شيئا عن التقاعد والتخلِّي عن العمل، أيِّ عمل، سواء الشيخ العالِـم، الذي يتولَّى التدريس في حلقات العلم، أو الفلاَّح، أو البنَّاء، أو صاحب أيِّ حرفة ومهنة أخرى؛ وكلُّهم كانوا يحفظون في أدبياتهم النقلية، ويخزِّنون في ذاكرتهم التراثية، ويشاهدون في بيئتهم ومحيطهم الذي نشأوا وتربَّوا فيه، أنَّ: -"طلبُ العلم من المهد إلى اللحد"-، وأنَّه: -"إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألاَّ تقوم حتَّى يغرسها فليغرسْها"-.

    ولكن في أيَّامنا هذه، أصبحنا نعيش نظاما عالميا يسمَّى "نظام التقاعد" شُرِّع سنة 1880م بألمانيا، وعمِّم بعد ذلك على العالـَم كلِّه، شرقه وغربه، وشماله وجنوبه، عَـرَبه وإسلامه؛ فظهرت في المجتمعات سلوكات ومظاهر وظواهر أفرزها هذا النظام الذي جعل العمل وظيفة تؤدَّى في ساعات معيَّنة ومحدَّدة لربِّ العمل، مقابل أجرة يومية أو شهرية، فلم يعد العمل في فقه هذا النظام تكليفا وواجبا لخلافة الأرض وعمارتها.

    وعندما تقدُّم الموظَّف هذا في العمر، وانخفاض مردوديته، وضعف قدرته على العمل، وتراجع مداركه الذهنية، وتشتُّت تركيزه في عمله، يُستغنَى عنه، ويبدَّل بغيره شابًّا في مقتبل العمر صحيح البدن قويَّ البنية.

قلتُ، ظهرت جرَّاء هذا النظام سلوكات اجتماعية لم تكن معروفة من قبل، منها:

-      ظهور فئة من الناس في سنِّ الكهولة أو بداية الشيخوخة خارج أيِّ نشاط عمليٍّ.

-      ظهور تجمُّعات بشرية في أماكن معيَّنة من المدينة لأناس قاعدين كأنَّهم ينتظرون أمرا مَّـا، حتَّى الناس يطلقون على هذه الأماكن -تفكُّها- "قاعات انتظار الموت".

-      خسارة المجتمع خبرةَ وتجربةَ هؤلاء الرجال بعد قضاء عقود من أعمارهم في أعمال مفيدة ومنتجة.

    اللهمَّ إلاَّ قلَّة قليلة أدركها العقل الراجح، وتميَّزت بوعي وحكمة جعلت من التقاعد عمرا ثانيا، يستفيد منه لنفسه، أو يقدِّم خدمة -عظيمة أو بسيطة- لدينه ووطنه وأمَّته، أو يحقِّق خلاله أحلاما كانت تراوده ولـم تكن ظروف عمله تُسعفه، أو يمارس هوايات كان يرغب فيها ويرتاح إليها.

    فعن هذه القلَّة من المتقاعدين نتحدَّث اليوم، ونعرض منها نماذج متميِّزة، نثمِّن عملها بل إنجازاتها، ونقدِّر جهودها، ونعرضها أمثلة وقدوات للمتقاعدين القاعدين في الدكاكين تحت الجُـدُر وهم قادرون على العمل، لعلَّهم يقدِّمون عملا صالحا يثقل ميزان حسناتهم عند الله تعالى، وإنجازا علميا، أو تربويًّا، أو فنِّـيا يفيد البلاد والعباد.

    ومن هؤلاء على سبيل المثال:

 

1-   القدوة المثل:

v  المجاهد السياسي: عبد الوهاب بن الشيخ عبد الرحمن بكلِّي:

    من المتقاعدين القدوة: المعلِّم المخْلص، السياسيُّ المحنَّك، المناضل المثابر، والوزير السابق، الأستاذ: عبد الوهَّاب بن الشيخ عبد الرحمن بكلِّي (حفظه الله)، وليدُ مدينة بريان سنة 1940م، ونزيل العطف بولاية غرداية.

    تقاعد وزيرا للسياحة والصناعة التقليدية، بعد أن تقلَّد العديد من المسؤوليات والوظائف والمهام، وانتهى به المسار وزيرا للسياحة والصناعة التقليدية، ومستشارا لوسيط الجمهورية السيِّد عبد السلام حنَّاشي، وعضوا في اللجنة المستقلَّة للتحقيق في أحداث القبائل سنة 2001م، ولا يزال عضوا في المنظَّمة الوطنية للمجاهدين، ومؤسَّسات الأمير عبد القادر، والشيخ عبد ابن باديس، والشاعر مفدي زكريَّـاء. وفي جمعية البرلمانيين الجزائريِّين، والجمعية الوطنية للاقتصاديِّين الجزائريِّين. وجمعية النهضة للتربية والتعليم بالعطف. و...

    ولم يركن بعد تقاعده إلى زاوية من زوايا مسكنه، أو يقبع على مصطبة من مصاطب القعَدةِ في شارع من شوارع البلدة، أو يمدَّ رجليه أمام بيته. لا أبدا لم يفعل هذا يوما، ولن يفعله أبدا، وليس هو الرجل الذي يفعل ذلك؛ فقد تربَّى على الجدِّ والعمل المفيد لنفسه، ولأسرته، ولمجتمعه، ودينه ووطنه، يعمل وفق قول الشاعر:

"وكن رجـلاً إن أتَـوا بعده *** يَقــولون: مـرَّ وهــذا الأثـر

    ويحفظ جيِّدًا قول رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: -"إِنْ قَامَتْ عَلَى أَحَدِكُمُ الْقِيَامَةُ، وَفِي يَدِهِ فَسِيلَةٌ فَلْيَغْرِسْهَا".

    فشمَّر حفظه الله يُنقِّب في تراث والده الشيخ عبد الرحمن بن عمر بكلِّي (البكري) رحمه الله الذي خلَّفه بعده مخطوطا، فأخرج لنا منه كتبا قيِّمة، وأسفارا غنيَّة تحمل علما، وفقها، وفكرا، وتاريخا، زادت على العشرة عنوانا.

    ووضع تجربته وخبرته المتراكمة عبر السنين من عمره المبارك للقرَّاء، والباحثين، والمثقَّفين، والمناضلين، السياسيين، والمرابطين في ثغور الإدارات هنا وهناك، حيث جمعها في كتب عديدة، تحت عناوين مختلفة ليستفيد منها المجتمع كلٌّ في ميدانه.

    وجعل من بيته صالونا يؤمُّه من الناس كلُّ من يرغب في الاستفادة من تجربته الطويلة التي صارت فيه حنكة وحكمة في العديد من المجالات، فكان بالفعل محجَّ الكثير من المترشِّحين للانتخابات المحلِّية والوطنية، والمعيَّنين في وظائف سامية، يستنيرون من خلال نصائحه وتوجيهاته دروبهم وما قد يستقبلهم من متاعب ومصاعب وإشكالات.

    ووضع نفسه، ووقته، ومساره، وعلمه، وخبرته، وتجربته، وذاكرته، تحت تصرُّف الباحثين، والطلبة، والكتاب، والمثقَّفين، وكلِّ من يحمل قلما وقرطاسا يريد كتابة تاريخ مرحلة من المراحل التاريخية للجزائر الحديثة خاصَّة.

    هذا الأستاذ المتقاعد: عبد الوهَّاب بن الشيخ عبد الرحمن بكلِّي (حفظه الله)، الذي أقدِّمه اليوم قدوة ومثلا أعلى، للإخوة الأساتذة لينهجوا نهجه، وينحوا نحوه، فنعم القدوة هو، ونعم المثَل هو، للمتقاعد والأمَّة والوطن.

فَتشبَّهوا إن لـم تكونوا مثلهمُ *** إنَّ التــــشــبُّه بالكــرامِ فــلاحُ

 

بقلم: يوسف بن يحي الواهج

هناك تعليق واحد: