الأربعاء، 19 فبراير 2014

رسالة من: آدم إلى حواء -2

    رسالة من: آدم إلى حواء -2
 
    عزيزتي حوَّاء:
    أحيِّيك بتحيَّتنا الأولى أيَّام الجنَّة الجميلة، فأقول: السلام عليكِ ورحمة الله.
    بينما كنتُ أسير في مناكب الأرضِ كما أمرني خالقي، إذا بي في أرضٍ فسيحة الأرجاء، واسعة الآفاق، رملية الأديم، تثبِّتها جبال شاهقة، خالية مِنْ أيِّ شجرٍ إلاَّ من سدرٍ قليلٍ.
    أفسح المجالَ لبصري نحو الأفق، علَّني اكتشف ما وراءه، وأرفع حينا رأسي متطلِّعا إلى السماء، فيردُّني وَهَجُ الشمس الحارق، فأضعُ عينيَّ تحت قدمي أتأمَّل الرمال الذهبية الناعمة، والتراب الذي تربطنا به صلةُ الخِلقَةِ وحنينُ الأصل.
    فاذكر الله تعالى كثيرًا، وأسبِّحه وأمجِّده وأعظِّمه على حكمته وقدرته، وأستغفره وأتوبُ إليه باكيا نادما على ما بدر منِّي، سائلاً إيَّاه العودةَ إلى جنَّة الخلدِ.
    عزيزتي حوَّاء:

    وفي لمحة بصرٍ نحو الأفق البعيد، لمحتُ شيئا يتحرَّك، فبدأت الخطوَ نحوه، وهو كأنَّه قادمٌ نحوي، ثمَّ تبيَّن لي أنَّه إنسانٌ ذكرٌ من نسلِنا، ومعه فتاة صغيرة السنِّ؛ وعند اقترابي منه، وجدتُه يحفر في الأرض في عجَلَة كبيرة. ألقيت عليه السلام، فردَّ عليَّ بتحية لم أفقهها ولم أَأْلفها، كأنَّها: عِمْتَ صبَاحًا، أو ما شابهها، وهو منهمكٌ في الحفر. ثمَّ انقضَّ كالوحش على الفتاة يريد رَمْيَها في تلك الحفرة. وكانت الفتاة تبكي وتصارعه، تريد الافلات من قبضته، وهو غير آبه بها.

    قلتُ له مندهشا: ماذا تفعل يا رجل؟!    ما الأمر؟!   
                                                   ماذا تفعل بالفتاة؟!
    قلتُ هذا وأنا أحاول تخليص الفتاة من بين مخالبه.
    أجابني: أريد دفَها.
    قلتُ مستَغْربا: تريد دفنها؟!   أَجنِنْتْ؟!
    فدفعتُه بقوَّة كبيرة ليسقطَ على الأرضِ، وبقِـيَت الفتاةُ الباكية بين ذِراعِيَّ. وحاول الرجل أن يأخذ الفتاةَ منِّي، فصحتُ في وجهه صيحةَ مدوِّية، تصحبُها ضربة أقوى من الأولى، فطرحتُه أرضًا، ثمَّ قلتُ لهُ بنبرةٍ حادَّة:
    لن أدعَكَ تفعل ما تريد أبدًا، وأريد أن أفهم الأمر، ما ذنْبُ الفتاة حتَّى تدفنها حيَّةً؟
    أجابني قائلا: هيَ لم تُذْنبْ بعدُ، ولكنَّها قد تفعل يوما عندما تكبر.
    قلتُ: لم تُذنبْ، وتدفنها حيَّة؟!
    قال: هي العار الذي أخاف أن يلحق بي وبأسرتي وعشيرتي، وهي المخلوق الذي لا فائدة منه تُرجَى، أُطعِمُها وأسقيها وأكسوها دونَ أن أكسبَ منها شيئا مفيدًا؛ ثمَّ يأتي أحدهم ليأخذها سويَّة سالمة، وقد يأخذ معها مالي ورحالي وكلَّ ما أملك.

    صدِّقيني عزيزتي حوَّاء، والله والله، لقد اندهشْتُ لكلامه هذا، وخرس لساني عن الإجابة، حيرةً وتعجُّبا من الرجل وقساوة قلبه وسفاهة منطقه.
    فشدَدْتُ الفتاة إلى صدري، أحضنُها إشفاقا عليها وخوفا عليها من قساوةِ هذا الوحش الغريب. ثمَّ تنهَّدتُ تنهيدة عميقة، أسفا على حال أبناء صلبنا يا حوَّاء؛ إنَّهم يئدون بناتهم يا حوَّاء، يئدونهنَّ وفي صدورهنَّ روحٌ نفخَها الله تعالى فيهنَّ.
    ثمَّ قلت للرجل وأنا في غضبٍ شديد: من أيِّ خِلْقةٍ أنت أيُّها الرجل؟ !
                                                             لا يمكنُ أن تكون من أبناء آدم.
    قال الرجل: ما لك وشأني أيَّها الغريب؟ ومن تكون أنت؟
    قلتُ: أنَا ابوك آدم، آدمُ الذي لم يتمنَّ يوما أن يكون أمثالُكَ من نسلِه.
                                                        أنا بريء منك، وممَّا تفعل بهذه الفتاة.
    حاول الرجلُ أن يقول شيئا، ولكنَّني لم أفسح له المجال، واسترسَلْتُ في حزن وغَضَبٍ شديدين أقول:
    هذه الفتاة أيُّها الوحشُ الكاسر، هيَ إنسان كرَّمها الله تعالى مثلَك، كانت أمُّها الأولى في الجنَّة صُحبَتي، رافقَتْني وآنَسَتْني وواسَتْني يومَ الحزنِ الأكبر، عند خروجنا من الجنَّة؛ وكانت رفيقتي في هذه الدنيا، تفرحُ لسروري، وتحزنُ لهمِّي، وتعينُني على نوائب الدهر ومتاعبِ الحياة.
    أيُّها الوحش الظالم، ألم تكن الأمُّ التي أنجبك وربَّتك فتاة صغيرة؟،  وهل تجلب الفتاةُ العارَ لأهلها إلاَّ بمشاركة رجلٍ؟  فلمَ لا تقتل الذكر كذلك؟!   ولو فعل كلُّ الناس ببناتهم ما تفعله أنت اليوم بابنتِك، لانقرضتمْ جميعا يا أبنائي، واللهُ تعالى قد خلقنا لعمارة هذه الأرض، وخلافته فيها بالعمل الصالح، والقول الحسن.
    أفرغتُ ما في جُعبَتي من كلمات بنبرةٍ حادَّةٍ، مفجوعا من فعل هذا الوحش، وأنا أثناء كلِّ ذلك متمسِّك بالفتاة.
    ونهض الرجلُ قائما ينفض غبارَ الترابِ مِنْ على ثيابِه، وتقدَّم إليَّ يريد أخذَ الفتاةِ مِنْ بينِ يديَّ، وهو يقول: اعطني ابنتي، هذه عادتنا، نذود بها العار، ونردُّ بها الفقر.
    قلت وأنا متشَبِّثٌ بالفتاة: أهذه عادتكم؟ ! ومن أنتم؟
    قال: نحن قوم يقال لنا العرب.
    قلت: بئسَ القوم أنتم، بل أنتم العار والعيب والشؤم على بني آدم كلِّهِم.
                                        تقبُرون بناتِكم أحياء؟! .. أيُّ جهلٍ هذا، وأيُّ تخلُّفٍ.
    ثمَّ استرجعتُ وحوقلتُ، فدنوتُ إلى الرجلِ هادئا وقلتُ له:
    أيُّها الرجل: إنَّ هذه الفتاة هِبَةٌ من الله لكَ، وهيَ بضعةٌ منكَ، تنير لك وتُضفي عليهِ السرورَ وهي صغيرة، ثمَّ تكونُ عونًا لأمِّها وهي يافعة، ثمَّ ترفع شأنَكَ بين الأنامِ وهي زوجة وأمًّا؛ فقط أحسنْ تربيتها، واهتمَّ بتعليمها وتهذيبها. أمَّ رزقُها فهو على الله تعالى، كما رزقك أنت. فلا تجهل ولا تظلِم الفتاة.
    فسقطتْ على خدِّه دمعةٌ حزينةٌ، وصدرت من صدره شهقةٌ عميقةٌ، ومدَّ يديه إلى ابنته، فسلَّمتها له وأنا مطمئنٌّ عليها بعد ما أحسستُ صدقَ ندمِه منْ حرارةِ دمعتِه، وعمقَ محبَّته منْ عمقِ شهقَتِه.
    وقال: سامحني يا أبي آدم، فعلا إنَّها جهالة وضلالة سقطنَا في اوحالها. إسألِ اللهَ تعالى لنا الهداية، وزرنا من حين لآخر لتتفقَّدَ أحوالنا.
    عزيزتي حوَّاء: هذا أغربُ تصرُّفٍ، وأجهلُ حماقَةٍ رأيتُها في سلالتنا، ولم أتوقَّع يوما أن يتحوَّل بشرٌ آدميٌّ كرَّمه الله تعالى بالعقل، إلى وحشٍ كاسرٍ ينقضُّ على فلذة كبده فيدسُّها في التراب؛ وما خلقنا الله على هذه الجبلَّة القاسيةِ الشاذَّة.
    أخيرا، تحياتي إليك عزيزتي صادقة، ودعواتي خالصة، وأشواقي حارَّة تدفعني إلى العودة إليكِ قريبا، إن شاء الله.


حبيك آدم
بقلم: يوسف بن يحي الواهج

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق