"عائلة ارشوم" مدرسة البناء والتعمير
نسكن العواصم، والمدن، والقرى،
والقصور، والبيوت؛ ونرتاد المساجد، والجوامع، والمدارس، ونزور القلاع، والحصون،
والأبراج؛ ولـم نكلِّف يوما أنفسنا أن نسأل أو نتساءل عمَّن وراء هذه الإنجازات، والبناءات،
والعمارات؟
فمن المؤكَّد
ولا يختلف في ذلك اثنان، أَنَّ وراء كلِّ جدار بنَّاءً، وخلف كلِّ عمارة مهندسًا،
ومقاولا، وصانعا، ألـم يكن خلف الأهرام الفراعنة وشعب إسرائيل؟ ووراء سور الصين
العظيم أسرة مينغ؟، ووراء قصر الحمراء بغرناطة الغالب بالله محمَّد الأوَّل؟، إلى
غير ذلك من جميل البناءات والعمارات الخالدة في العالَـم.
هذا ما
يتبادر إلى ذهني كلَّما دخلتُ مرفقا عامًّا في بلدتي "بريان"
بصفة خاصَّة، من ذلك على سبيل المثال المساجد، والمدارس، وبعض البيوتات الخاصَّة
لعددٍ كبير من مشايخ البلدة وأثريائها.
فعرفتُ أنَّ
وراء العديد من مساجد ومدارس وقصور مدينة "بريان" كان وراءها رجال
من "آل ارشوم" التي أعرفها جيِّدا منذ الصغر بواسطة والدي "الحاج
يحي بن حمُّو الواهج" رحمه الله.
وكأنَّ الأمر تأكَّد عندي عندما لاحظت التشابه
الكبير، والنسق المتكرِّر، والهندسة الواحدة بين كلٍّ المساجد الموجودة في البلدة
دون استثناء، حتَّى "مسجد الإمام البخاري" المالكي.
ثمَّ عرفتُ
أيضا، أنَّ في بلدتي أعجوبةً هي بكلِّ فخرٍ من أعاجيب البناء والتعمير فريدة من
نوعها في المنطقة، وهو "القوس الكبير" الذي يرابط بصمود كبير
في مدخل سوق بريان.
وأمام هذه
المعطيات، والمعلومات، والشواهد، رحتُ أبحث في الموضوع من مصادره التي بين يديَّ،
ابتداء ممَّا علق في ذاكرتي عن رجلين شقيقين من رجال هذه العائلة البنَّاءة، وقد
كانا صديقين لوالدي رحمه الله، وهما:
-
الحاج يحي بن عيسى ارشوم. (2009-1917م)
-
الحاج حمُّو بن عيسى ارشوم. (1975-1909م)
وهما كانا يشيِّدان
كلَّ ما بناه الوالد من دور وبيوت في البلدة بريان، التي حلَّ بها في سنة 1931م،
ولـم يغيِّر المقاولة بغيرهما حتَّى توفَّاه الله سنة 1996م.
ثمَّ تعرَّفتُ
على الرجل الثالث في "مقاولة ارشوم" عندما انخرط إلى جانب والده
وعمِّه للعمل معهما في نفس المهمَّة، فكان نِعم الخلَف لخير سلف، إنَّه:
-
الحاج عمر بن حمُّو ارشوم. (2012-1930م). الذي انضمَّ إلى مؤسَّسة والده وعمِّه في سنة 1970م.
ومن خلال صديقي وزميلي
الأستاذ: "بكير بن الحاج يحي ارشوم" عرفتُ أنَّ تخصُّص العائلة
في البناء والعمارة، بدأ مع السيِّد: صالح بن حمُّو بن بكير، ومنه انتقلت
الحرفة إلى ابنه عيسى.
والسيِّد: عيسى بن صالح ارشوم (1935-1863م)،
يعتبر هو أبُ الحرفة "حرفة البناء" في آل أرشوم، بما ترك من بصمات خالدة
لا تزال قائمة وشاهدة في مجال البناء إلى يومنا هذا، وأهمَّ هذه البصمات الخالدة، "قوس
السوق" بالبلدة، في زمنٍ قبل أن
تدخل الاسمنتُ والحديد إلى المنطقة، إذ كان البناء كلُّه يقوم على المواد الطبيعية،
من طوبٍ، وحجارةٍ، وجبسٍ، وأعمدة خشبية، وجذوع النخل وجريدها، وأغصان الأشجار، وورَّث
بعده الحرفة وأسرار المهنة فيها إلى أبنائه ثمَّ منهم إلى أحفادِه، ولا تزال المهنة
متجذِّرة وراسخة في "آل ارشوم"، ومع كلِّ جيلٍ منهم تدخل المنطقة
معارف جديدة ومواد حديثة حسب العصر والموضة.
وأهمُّ ما في
هذه المؤسَّسة العائلية، وجعل منها مدرسة فعلية، أنَّها خرَّجت للبلدة بنَّائين
مهرة تكوَّنوا وتدرَّبوا في ورشاتها ومشاريعها الكبيرة والصغيرة والأساسية؛ كما ساهمت
في تأسيس العديد من المؤسَّسات الموازية الداعمة للمقاولة، فيما يسمَّى في هذا
العصر بالمناولة أو الصناعة المناوِلة، أو المؤسَّسات المناوِلة.
فكانت
المقاولة العائلية "الرشومية" (إن صحَّ التعبير) مؤسَّسة
اقتصادية تجمع كلَّ الأطياف المكوِّنة للنسيج الاجتماعي في بلدية بريان كلِّها، يأتي
إليها من أجل العمل والتكوين الشبابُ، والكهولُ والكبارُ من شرق البلدة، وغربها،
وشمالها، وجنوبها، وحتَّى من سكَّان البادية في أطراف البلدة.
ومنهم الكثير
من تخرَّج منها وأسَّس لنفسه مقاولة، أو مؤسَّسة خاصَّة به، يشتغل بنفسه ويشغِّل
أبناء البلدة، ويعلِّمهم ما تعلَّمه ممَّن سبقه.
أفلا يجدر بأجيال اليوم من البريانيِّين المثقَّفين خاصَّة أن يجعلوا من هذه المقاولة التي يزيد عمرها على القرن (100 عام)، مدرسة أو قل معهدا أو جامعة للتكوين والتمهين، مثلها مثل مدرس التكوين المهني في عصرنا هذا؟؟!!
أتمنَّى أن يكون ذلك في يومٍ مَّـا، خاصَّة من أبناء العائلة المثقَّفين القادرين على ذلك، وما أكثرهم، وأقدرهم على ذلك وللَّه الحمد.
بقلم: يوسف بن يحي الواهج.
بريان: 13 سبتمبر 2024م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق