الخميس، 26 يناير 2023

شخصيات: الحاج عيسى بن باعلي الأطرش رجلُ الحزمِ، والعزْمِ، والدعابَةِ

 

الحاج عيسى بن باعلي الأطرش

رجلُ الحزمِ، والعزْمِ، والدعابَةِ

   

    رجل، كنت كلَّما رأيته يحضرني بيتان من أغنية "الأطلال" للمطربة الكبيرة "أمِّ كلثوم":

واثــقُ الخطــوةِ يمشي مَلَـكـاً ظَــالِـم الحُــــسنِ شهيَّ الكِــبريَــــــاء

عَـبق السـحرِ كأنفاسِ الربَى ساهم الطرف كأحلام المسَاء

    ويحضرني أيضا بيتان ينشدهما المطرب الفلسطيني المتميِّز:

مَنــتَـصبَ الـقــامةِ أَمْشِي مَـرفوعَ الـهامَـةِ أَمشِي

في كَــــفِّي قَصـفَـةُ زَيـتــونٍ وَعَــلى كَــتـفي نَــعـشِي

    بكلِّ صدقِ، هذه هي المشاعر الحقيقية التي أحملها للسيِّد الفاضل: "الحاج عيسى بن باعلي الأطرش" (رحمه الله)، وقد عرفته أوَّل الأمر صديقا لوالدي العزيز (رحمه الله)، عندما يلتقي به في الجزائر العاصمة أو في بريان بأغلان، فرسخت من خلال ذلك له صورة متميِّزة خاصَّة، بحديثه الفصيح دائما، سواء كان عربيَّا في لغة  الضاد أو في الدارج، أو كان أمازيغيا صحيح المزابية؛ وصورته الشخصية ذات الروح الخفيفة، والدعابية الجميلة الراقية الهادفة في أغلبها، ويكتمل المشهد بين ناظريَّ بطربِ وانشراح والدي بنوادره الجميلة، وتبادل الحكايات الطريفة بينهما، واستذكار المشاهد والوقائع التاريخية والذكرياتية التي عاشها كلُّ منهما، والجُمل من الحكم البليغة والأمثال الشعبية العتيقة كأنَّها منهما جوامع كَلِم وخلاصات خبرة وتجربه.

    كما عرفته بشكل أفضل لـمَّا كان أقرب إليَّ وأنا في عمر الشباب، وبقي هو شيخ للشباب وإن تقدَّمت به السنون، فحظيتُ منه برفقة جميلة في سفرٍ لا أنساه أبدا، طالت مسافاته، وقَصُرت مواقيته، بين الجزائر العاصمة، ومدينة تيارت، ومدينة وهران، لـم نكن في حاجة إلى تشغيل مذياع السيارة، أو تشغيل كاسيت أو قرص، فقد كانت حديثه أحلى من أيِّ حديث.

    ففي تلك السفرية التي لا تنسى، والتي مرَّ عليها اليوم ما يقارب ربع قرنٍ من الزمن، اكتشفتُ الرجلَ من جديد، ونالني منه الخير الكثير، فقد كان خزانة تاريخ، ومجمع علم، ومنجم تجربة وخبرة، ينطق حكمة كأنَّه شاعر، ويطلق جوامع كلمٍ كأنَّه حكيم زمانه، يضعها كرَمًا وسخاء أمام محدِّثه معالم طريقه.

    أحسستُ حينها أنَّني محظوظ بما حفظتُ منه من حكمٍ وجوامع كَــلِمٍ بليغة لا زالت ترنُّ في أذني، وتحرِّكها الـمَشَاهد والأحداث أمامي اليوم، وغنمت منه معلومات تاريخية جغرافية مواقعية عاصرها، أو حفظها، أو عايشها، أو كان أحد صُنَّاعها، أو شاهدا عليها عندما شاهدها؛ وإنَّني اليوم أعضُّ بنان الندم أن لـم أسجل على قرطاس ما كان يجود به عليَّ.

    وإن نسيتُ، فلا أنسى قولته الجميلة الحكيمة:

    -"الربح المستور عن الناس يصبح ربحين، والربح المكشوف لكلِّ يغدو خسارة. والخسارة المستورة عن الناس تصبح ربحا، والخسارة المكشوفة لكلِّ الناس تصبح خسارتين"-

    -"صبعي وصبعك، وعضَّ"-

    -"ما أشبه قمم الأطلس الصحراوي بأثداء الكلبة"- ... إلخ.

    هذا الرجل الفاضل، هو السيِّد الكريم: الحاج عيسى بن باعلي بن عيسى بن باعلي بن عيسى بن باعلي ابن إبراهيم الأطرش، أصيل مدينة بريان آباء وأجدادا، أمُّـه السيِّدة الفاضلة: عائشة بنت باحمد الأطرش (رحمها الله)، من عشيرة آل بنَّاصر. ولدَ في يوم: 15 جمادى الثانية 1361ه، الموافق ليوم: 30 جوان 1942م.

    وفي مدينة بريان بولاية غرداية ولد، وبين أحضان أبويه تربَّى ونشأ وترعرع في حياة بسيطة متواضعة، ومنهما تلقَّى أُسُس وقواعد التربية الدينية والخلقية؛ وعاش فيها طفولته الأولى بين البيت السعيد على تواضعه وبساطته، والكتَّاب (المحضرة) لحفظ ما تيسَّر من القرآن الكريم، والبستان لتعلُّم الفلاحة وتربية المواشي والأكل من عرق الجبين.

    ولـم يُحظَ -كأغلب أطفال ذلك الزمن- بفترة تعليمية كافية منتظمة، حيث سافر إلى الجزائر العاصمة للعمل في التجارة في بداية سنوات بلوغه الأوَّل، ومع ذلك ختم القرآن الكريم، واكتسب نصيبا كبيرا من اللغة العربية والفرنسية بعصامية وإرادة ومثابرة، حتَّى بان اللسانُ العربيُّ الفصيح في أغلب حديثه حتَّى ليخاله السامع من العَرَبِ الأقحاح، كما تمكَّن من اللغة الفرنسية حديثا وتحريرا.

    بدأ ارتباطه بالتجارة في الرابعة عشر من عمره، فاشتغل في إحدى المحلاَّت التجارية بباب الوادي، وما لبث أن استقلَّ بتجارة خاصَّة به في شارع: الدكتور سعدان (طرولار)، في استيراد المناديل الورقية خاصَّة، ثمَّ أصبح الـمُمـثِّل لعلامة "فاين" (FINE) في الجزائر أوائل سنة 1970م.

    وفي خضمِّ نشاطه في ميدان التجارة، والقيام بمهمَّة التمثيل للشركة العالمية تلك، كان وثيق العلاقة بمسقط رأسه بريان، فكانت بلدتُه "بريان" ومثوى والديه وأشقَّائه وأقاربه ضمن المحطّات التي كان كثير التنقُّل بينها، في الدول الأوروبية والدول العربية.

    فأسَّس في بريان "مشروعا استثماريا فلاحيًّا" ناجحا، وكان الرائد خاصَّة في تربية الدواجن وتربية النحل في بداية الثمانينات من القرن الماضي إلى التسعينيات منه، قبل أن تكون تربية النحل وتربية الدواجن موضة يتهافت عليها المستثمرون، وحرفة أو مهنة تنظِّمها وترافق أصحابها الدولة الجزائرية حديثا.

    ولـم يمنعه المشروع الفلاحي هذا أن يولي اهتماما للمجتمع والعمل الخيريِّ التطوُّعي، فأسَّس "جمعية أولياء تلاميذ مدرسة حيِّ بابا السعد الابتدائية" في نهاية السبعينيات من القرن العشرين، وتولَّى رئاستها بكفاءة واقتدار وإخلاص.

    كما كانت له صولات وجولات في ميدان السياسة بين أقسام وقسمات "حزب جبهة التحرير الوطني" يدافع من خلالها عن الوطن والمواطن، ويساهم في تخطيط وتحقيق ما كان صالحا ونافعا للمجتمع الغرداوي عموما، وللوطن الجزائري بشكل أعمّ.

    ومن جهوده الدعوية والنضالية، دعوته المجتمع في أكثر من مناسبة إلى الاهتمام بالفتاة في الأسرة، كما بالطالبة في المدرسة، والأمِّ في البيت، وتعليمها وتكوينها وشحنها بما ينفعها في دنياها وأخراها. فكان رحمه الله حريصا جدًّا أن يصنع من ابنته "سهيلة" محامية لتقوم عنه في حياته وبعده بما يحقِّق فكرته ورأيه، على أن يكون ذلك ضمن الضوابط الشرعية للإسلام، والضوابط العرفية والقيمية للمجتمع المزابي المحافظ على دينه وأعرافه وقيمه ومرجعيته.

    وبها (المحامية) تجد المرأة في المجتمع المحافظ من يقف إلى جانبها عند الحاجة إلى الاتصال والتواصل بالعالم الخارجي من بيتها، وكما تجد لديها الاستشارة فيما يتعلَّق بها من حقوق وواجبات؛ والمرأة مع المرأة تكون أريح1.

    ولـم تهدأ نفسه ولا ركن إلى الراحة والهدوء إلاَّ بعدما فرضت عليه حالته الصحية أن يستقرَّ في مسقط رأسه، ولـم تزد تلك الفترة على ستَّة أشهر، حتَّى توفَّـاه الله يوم: 26 شوَّال 1442ه، الموافق ليوم: 07 جوان 2021م، وفي بريان وسِّد التراب، رحمه الله برحماته الواسعة، وأسكنه فسيح جنَّاته. آمين.

    وكان قد تزوَّج خلال حياته أربع نساء، أنجب منهنَّ عشرين مولودا تبارك الله، نصفهم ذكور، والنصف الثاني إناث، وبقي في ذمَّته عند وفاته زوجتان؛ فكان لأولاده وبناته نعم الأب حنانا، ورحمة، ورفقة، وتربية، ولزوجاته نعم الزوج معاملة، ومودَّة، ووفاء.

    من صفاته المتميِّزة فيه، سعَة الصدر، والحبُّ في الله، وصدق الحديث، والحزم في أموره، وصدق عزيمته، وهذا ما جعله يكتسب قلوب الكثير من الناس، وكأنَّني به وبأصدقائه أرى المثل العربي يتجسَّد فيه وفيهم: -"الطيور على أشكالها تقعً"-. فكان من أحبِّ وأعزِّ أصدقائه على سبيل المثال:

-       عمر بن سليمان بودي (الطالب).

-       يحي بن حمَّو الواهج.

-       باسعيد بكير.

-       كروشي بوخانة.

-       طالب باحمد حاج سعيد.

-       دبدابة عيسى.

-       بوسحابة محمد.

-       بوعلام رحمون.

-       الحوداشي السلمي.

-       علي حبِّي. ... وغيرهم كثير.

    ومن صفاته التي يتميَّز بها أيضا، خفَّة الروح التي جعلت منه مِلحَ وزينةَ المجالس، ومحبوبَ القلوب، وطروب النفوس، فكم من عليل وكئيب وحزين حوَّله من حال إلى حال في دقائق معدودة، فأصبح الكئيب سليما، والعبوس بشوشا، والحزين سعيدا؛ وما أكثر أصدقاءه الذين يطلبونه ليرفِّه ويسرِّي عنهم عند الحاجة إلى الخروج من بعض الأزمات، ومنهم والدي العزيز رحمهما الله.

    وكان يمتاز بخفة الروح والمرح والدُّعابة، مـمَّا جعله محبوبا لدى الجميع.

رحمه الله برحماته الواسعة

*المصادر:

*وثيقة مرسلة إلينا من كريمة المترجم له الأستاذة: سهيلة، يوم: 20جانفي 2023م.

1- هذا ما كان يقوله لي الحاج عيسى أكثر من مرَّة، وفي أكثر من لقاء.

بقلم: يوسف بن يحي الواهج

بريان: الخميس 26 جانفي 2023م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق