الثلاثاء، 28 سبتمبر 2021

شخصيات: السيِّدة الفاضلة: ستِّي بنت حمُّو باسليمان صدق الوطنية وإخلاص الجهاد

 

السيِّدة الفاضلة: ستِّي بنت حمُّو باسليمان

صدق الوطنية وإخلاص الجهاد

    في أواخر سنة 1961م، تعرَّضت مدينة بريان إلى حصار شديد من قِبل الجنود الفرنسيِّين، بعد أن نفَّذ المجاهدون من جيش التحرير الوطني بأمرٍ من المسؤول: عبد القادر عطَّاش1، عمليَّة تخريب على مركز (لاصاص)2 ونهب ما يحتويه من تجهيزات، وطلب الجيش من العمَّال الجزائريين فيه الهروب عند الهجوم، على أن يحمل كلُّ واحد منهم ما يستطيع من سلاح وذخيرة وتجهيزات.

    ومن هؤلاء العمَّـال في المركز المسمَّى: عويسات سليمان بن إبراهيم، الذي قام بما طلبت منه قيادة جيش التحرير، وعند هروبه من المركز محمَّلا بسلاحه وذخيرته، تلقَّفه المجاهد أرغيس المسعود (مسؤول المسبِّلين)3 أحد المشاركين في العمليَّة مع المجاهد: بكير ابن عبد الله "الضبّ"4، فقاده مباشرة إلى مسكن الشهيد: إبراهيم بن سليمان باسليمان بوسط المدينة، حيث يسكن المجاهد: باسليمان قاسم بن إبراهيم، وكان الوقت متأخرا من الليل، فطرق الباب بشدَّة، وفتحت ربَّــةُ البيت السيِّدة الفاضلة: ستِّي بنت حمُّو باسليمان (رحمها الله)، زوجة قاسم باسليمان، وما أن فتحت الباب حتَّى دفع أرغيسُ العاملَ الهارب إلى داخل البيت وقفل راجعا من حيث أتى.

    فوجدت المرأة الحامل نفسَها أمام رجل غريب، وهو موقف غريب تفاجأت المرأة به في جوف الليل، لكنَّها تجلَّدت وكتمت خوفها وهلعها5 وسألته:

-      من أنتَ، وما جاء بك؟!

    أجابها الرجل:

-      أحد المجاهدين في جيش التحرير أتى بي إلى هنا، ولا أعرف لمـاذا، ولا أين أنا الآن.

    ففتحت له باب الجناح الخاصِّ بالضيوف "لـعلي" وأمرته أن يركن فيه ريثما يأتي زوجها ربُّ البيت.

    ولـمَّا جاء الزوج، السيِّد قاسم لمنوَّر وأخبرته بوجود الرجل في جناح لـعلي، دخل على الرجل وسأله:

-      ما خبرك أيَّها الرجل، وما جاء بكَ؟ ومن أتى بك إلى بيتي، ولمـاذا هذا البيت.

    أجاب الرجل:

-      جاء بي إلى هنا أرغيس المسعود ودفعني إلى البيت دفعا، وأنا أعمل في مركز لاصاص، وقد هجم عليه الليلةَ جيشُ التحرير، وأمروا كل العمَّال بالهروب عند الهجوم، وأن يحمل كلٌّ منَّا سلاحه وذخيرته، والجهاز الذي يشتغل عليه، وقد طلبوا منِّي حمل الراديو، لكنَّ الجهاز ثقيل جدًّا لم أستطع حمله، أمَّـا السلاح فهو ذا مع الذخيرة.

    أمر المجاهد: قاسم باسليمان زوجته أن تحضِّر قفَّة مملوءة بما يكفي أسبوعا من المؤونة والمياه، وأن تلبس حجابها، وتسير أمامهما، وأن تقوم بحركة خاصَّة إن هي رأت ما يريبها، كأن تقوم بتعديل حذائها، ليتمكَّنا من التخفِّي أو الهروب.

    فكان الأمر كذلك، قبل أذان الصبح، وعند الأذان الأوَّل (غِيرُو)6 سارت المرأة الحامل متقدِّمة عليهما برباطة جأش وشجاعة، حتَّى وصلوا بيت المعلِّم: محمَّد بن امحمَّد أولاد داود (البرياني) فطرقت الباب، وطلبت مفتاح بيت السيِّد: محرزي بالحاج7 الفارغ في نفس الشارع، فأدخل المجاهد قاسم لمنوَّر الرجل الهارب في البيت، وأنزله الدهليز، ومدَّه بقفَّة المؤونة، وقال له:

-      هذا ما يكفيك لمدَّة أسبوع، لا أنا أعرفكَ، ولا أنتَ تعرفني، وإن تعرَّضتَ لخطر مَّـا دافع على نفسك، فلديك سلاح وذخيرة.

وغطَّى فتحة الدهليز بشوار من سعف النخيل، وأغلق عليه باب البيت؛ وبينما هو عائدٌ إلى بيته، التقى بالمجاهد: بكير ابن عبد الله "الضبّ" فطلب منه أن يرافقه، فذهبا إلى المركز الثوري بناحية بالُّوح في بستان آل بن عبد الله، فوجد في المركز أربعةَ عمَّال مركز لاصاص الهاربين بعد الهجوم عليه، ملتجئين إلى جيش التحرير، فقام قاسم لمنوَّر بمساعدة بكير الضبّ على إنزالهم في البئر الجافَّة، ليختبئوا فيه ريثما تُـــقرِّر جبهةُ التحرير أمرها فيهم.

    وهو (قاسم لمنوَّر) عائد إلى البيت، وكان الزمن مع شروق الشمس، وجد أن القوات الفرنسية تحاصر البلدةَ عندما رأى أحد الفرنسيِّين بسيجارته، فغيَّر اتجاهه إلى طريق آخر، فالتقى بحافلة بوكامل تُنزل أسرة بأطفالها، فاتجه إليها وحمل أصغر أطفالها قائلا لهم:

-      سيروا معي فأنتهم ضيوف عندي.

    فعل هذا ليتنكَّر على القوَّات الفرنسية ويدخل البلدة آمنا.

    وكانت قوَّات الجيش الفرنسي قادمة لمحاصرة البلدة للانتقام من منفِّذي عمليَّة لاصاص، ومعاقبة السكان على إيوائهم المجاهدين (الفــلاَّﭬَـــة)، وبدأت في البحث في بيوت السكان بعد أن أخرجت كلَّ الرجال إلى ساحة بودواية، وأبقت فقط النساء والأطفال.

    وخوفا من المرأة الرجُــلَة البطلة السيِّدة: ستِّي بنت حمُّو باسليمان (رحمها الله)، على زوجها ونفسها وأسرتها ونساء بلدتها من ظلم الجيش الفرنسي وما سيرتكبه في حقِّ السكان وممتلكاتهم، أسرعت إلى المجاهد: عمِّي إبراهيم باسليمان8، وأخبرته بما وقع وما قامت به مع زوجها، وما هو صائر في البلدة من حصار، ودخول جنود فرنسا بكلابهم البلدة، فزوَّدها عمِّي إبراهيم بكمِّية من الفلفل الحار جدًّا المعروف بــــ "برّ السودان" مطحونا، وأمرها أن تذروه في الشوارع التي مرَّت عبرها بالبلدة، وحول البيت الذي يختبئ فيه الرجل، وفي كلِّ مكان تمــرُّ به، أو بيت تستطيع الدخول إليه.

    ولـمَّا فعلت المرأة ذلك، هاجت ومرجت كلابُ العــدوِّ من تأثير الفلفل، فلـم يستطيعوا أن يقوموا بدورهم كما ينبغي؛ ثمَّ قامت بما كان يقوم به الأطفال من وضع علامة x على أبواب البيوت، وهي العلامة التي يرسمها الجنود الفرنسيون على باب كلِّ بيت تمَّ تفتيشه.

    وبهذا العمل الذي قامت به السيِّدة البطلة: ستِّي بنت حمُّو باسليمان، تمَّ إنقاذ البلدة ونسائها وأطفالها وأموالها من النهب والتخريب، ومن كلِّ ظلمٍ وشرٍّ كبيرين.

    وعن هذا الحدث، وفضل المرأة المجاهدة البطلة، يصرِّح ويشهد المعنيُّ بالأمر نفسُه، العامل الهارب من مركز لاصاص السيِّد: عويسات سليمان بن إبراهيم: فيقول تحت عنوان: "تصريح شرفي":

    -"أنا الممضي أسفله السيِّد سليمان بن إبراهيم عويسات، الساكن ببريان والمزداد.

    أصرِّح بشرفي أنَّ في أواخر عام 1961بعد تخريب مركز لاصاص الاستعماري بقيتُ في المركز المذكور وأُمرتُ أن أخرج منه مصحوبا بجهاز الراديو، وعند خروجي اتصلتُ بمسؤول المسبِّلين السيِّد أرغيس المسعود، مع كمِّية من الذخيرة أما جهاز الراديو لـم أستطع أن أخرجه معي لأنَّه ثقيل جدًّا، وصاحبني المسؤول إلى دار السيِّد باسليمان قاسم بن إبراهيم ودفعني عنوة داخل منزله، واستقبلتُ من طرف امرأة وصاحب المنزل غائبا من الدار، فاستقبلتني وقامت بي أحسن قيام، إلى أن جاء في الساعات الأخيرة من الليل صاحب المنزل، وعندما غادرتُ المنزل صحبة السيِّد قاسم باسليمان اكتشف أن بلدة بريان أصبحت محا صرة من طرف الجيش الفرنسي من كلِّ الجهات تصحبه الكلاب الكاشفة وبقيت تحت تصرُّف السيِّد باسليمان قاسم إلى أن رفع الحصار وبعد يومين أُلحقنا إلى مركز جيش التحرير بالعطف واستقبلت هناك بمسؤوليه وهما السيد: رشيد الصائـم، والسيِّد: الهاشمي الدارم في بدلتي العسكرية وبندقيتي والذخيرة، وانضموني إلى صفوف جيش التحرير الوطني، وهذا الاستقبال البالغ الحفاوة انجر من الدوام في العمل لهذه المرأة وزوجها السيِّد باسليمان قاسم عن عمله الدؤوب مع المسبِّل المذكور أعلاه."-

    فليس من السهل أن تجد المرأة المسلمة الملتزمة نفسها أمام رجلٍ غريبٍ في بيتها، وفي غياب زوجها، وهي حامل خاصَّة، ولو كانت كأيِّ امرأة أنثى، كانت صاحت بأعلى صوتها مستنجدة بمن يقيم معها في البيت، وبجيرانها، أو تنهار من الخوف والهلع، وقد تسقط جنينها؛ ولكنَّها امرأة جلدة شجاعة، تصرَّفت بروح وطنية حكيمة، وواجهت الموقف كما يواجهه أيُّ رجل بطلٍ شجاع، لأنَّها كانت قد تعوَّدت العمل الوطني الجهادي مع زوجها المجاهد، وزميله في الجهاد: إبراهيم باسليمان.

    وبروح وطنية مسؤولة، ونفسٍ اجتماعية شاركت بكلِّ إقدام وشجاعة، في إنقاذ أخواتها النساء المقيمات في البلدة، وأبنائهن وبناتهن، معرِّضة نفسها للخطر وظلم الجنود الفرنسيين.

فما أشبه ستي بريان بجميلات الجزائر، المجاهدات المناضلات المسبِّلات

بقلم: يوسف بن يحي الواهج


*المصدر: مقابلة مع نجل المجاهدة، السيِّد: عز الدين بن قاسم باسليمان "لمنوَّر"، يوم 09 سبتمبر 2021.

الهوامش

1-    حمُّو محمَّد عيسى النوري، دور المزابيين في تاريخ الجزائر، ج الثاني، ص: 355.

2-    الفِرَق الإدارية المتخصِّصة، أنشئت سنة 1955م، للقضاء على الثورة، وإبعاد الشعب عنها.

3-    التصريح الشرفي للسيِّد: سليمان عويسات.

4-    هو الذي قام بقطع خيوط الهاتف.

5-    كانت متعوِّدة على العمل الثوري من أجل الوطن، فهي على علم بما يقوم به زوجها مع جيش التحرير وقادته، كما كانت تتعامل مع المجاهد: عمِّي إبراهيم بن يوسف باسليمان، فكانت أمينة سرِّهما، والأمينة على ما يجلَب إليها من أدوية وأمتعة ووثائق تخص الثورة والثوَّار.

6-    "غِيرُو" هو الأذان الأوَّل الذي يسبق النداء لصلاة الصبح، هكذا يُسمَّى في اللغة المزابية الأمازيغية.

7-    محرزي بالحاج، تاجرٌ بمدينة قسنطينة ومقيم بها غالب الأوقات، لهذا كان بيته فارغا آنذاك.

8-    إبراهيم بن يوسف باسليمان، مجاهد مخلص، كان قيِّما ومشرفا على المركز الثوري بناحية الزرﭬِـي عند بستان آل أرشوم، وكان أمين سرِّ الثورة والثوَّار، وقادة وجنود جيش التحرير الوطني.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق