الخميس، 29 أكتوبر 2020

جمال اللغة وصدق المشاعر: إخواني الأعزَّاء*

جمال اللغة وصدق المشاعر:

    منذ وعيتُ وعرف كيف أقرأ -بفضل من علَّمني- لم أقرأ كلمةً لمعلِّم مربِّي وجَّهها إلى تلاميذه، مثل هذه الكلمات التي خطَّها المعلِّم القدير، والمربِّي المخلص، فضيلة الشيخ سعيد بن بالحاج شريفي (الشيخ عدُّون) رحمه الله.

    كلمات أتمنَّى بصدق ألاَّ تفوت معلِّما، أو طالبا.

إخواني الأعزَّاء*

    إنَّ قلمي ليكبو دون غايته إذا حاول أن يكتبَ شيئا ممَّا يختلج في ضميري من الحبور والابتهاج، وما تنطوي عليه جوانحي من الولاء والعطف عليكم، والاستبشار بمساعيكم وتقدُّمكم. إنَّني أجد في نفسي انشراحا وارتياحا لا يوصفان إذا رأيتكم في سلَّم النجاح ترتقون، وعلى اقتطاف زهرات الآداب تتزاحمون. للناس فيما يعشقون مذاهب، ومذهبي في العشق نجاحكم وسعادتكم.

    كم ليلة سهرتها -والكواكب أنيسي- لفائدتكم، وكم فراش بتُّ أتململ والهواجس تضاجعني، ووشاة الهموم تَسعى كلَّ السعي في التفريق بين جفنيَّ؛ كلُّ ذلك في سبيل حياتكم، لا يهنأ لي عيش ولا يطمئنُّ لي بالٌ إلاَّ في سبيل إرشادكم وتثقيفكم، لا يستقرُّ بي قرار ولا يطيب لي مقعد إلاَّ مقعدي أمامكم، أستمطر عليكم سحاب فكري لإخصاب أرضكم وإنعاشها، ليس لي وقت أنفس من وقت أصرفه وأبذله في سبيلكم.

    إنَّني لسعيد الحظِّ إذ حظيت بهذه الخدمة الجليلة، وأعدُّها فرصة ثمينة، ومنحة نفيسة مُنحتُها، لأنَّني بذلك أدرك مُنايَ، وأحصل على مرغوبي، وهو فوزكم ونجاحكم. كيف لا وأنتم غرض المنى، وعلى أساسكم تشاد صروح المستقبل، وبكم نحلِّق في جو السعادة.

    لا أقول هذا مبالغة وابتغاء حمد وشكر، أو جرًّا لمغنم أو دفعا لخطر، لا، لا، فمن اتهمني بشيء من هذا فقد جازاني مجازاة سنمَّار، وحقَّ عليه وعيد البهَّاتين، إنَّما هي عزَّتكم حقيقة أبديتها، وغرض يعود نفعه إليكم توخَّيته.

    إذا فهمتم هَذَا وأدركتم ما تنطوي عليه نفسي من العطف والولاء والإخلاص في خدمتكم؛ علمتم علم اليقين أنَّ ذاك مجرَّد صدق ووداد وإخلاص لا تشوبه شائبة رياء وغرض نفساني؛ وكنتم ممَّن يقرُّ بالإحسان ويعترف بالجميل.

    إذا عرفتم هَذَا لا شكَّ أنَّكم تسارعون في مجازاتي، فتتساءلون عن جائزة تليق بي فتمنحونيها جزاء لخدمتي، وشكرا لِـما قمت به نحوكم. هنا يجبُ عليَّ أن أرشدكم إلى الجائزة التي تجازوني بها، إذا جئتم بها فقد قمتم بواجبكم وكنتم من الشاكرين. ألا وهي العمل بما أطلبه منكم في هذه النفثات.

    أرجو منكم أن تعيروا أذنا صاغية لِـما قلت لكم ولِـما سأقوله لكم، وتقفوا عليه وقفة المتفهِّم المستبصر، وتفسحوا له مجالا واسعا في قلوبكم، وإنِّي على يقين بأن أجد ذلك منكم، لأنَّها نفثات يمليها قلم عن قلب يفيض إخلاصا وولاء وصدقا، والكلام إذا خرج من القلب لا يقع إلاَّ في القلب، فاصغوا لِـما أمليه عليكم، واعملوا به تفوزوا في الدارين. وذلك أمور:

-      أوَّلا: الاتحاد.

    لقد تفتَّحت عيونكم في عشٍّ واحد، ورضعتم من ثدي واحدٍ، وخلقتم في جو واحد، ورتعتم من روضة واحدة، فعضُّوا على هذه الوحدة بالنواجد، واسعوا كلَّ السعي في إلحامها والاحتفاظ عليها، وحوِّطوها بسياج متين من الأخلاق الفاضلة حتى لا ينفذ فيه سحر النفاثات، ولا تؤثر فيه قنابل المغرضين والمفسدين، لتكونوا روحا واحدة في أجسام متفرِّقة، تنظر وتسمع وتبطش وتمشي وتشعر بحاسَّة واحدة، إن مسَّت أحدكم حسنة تمسُّ الجميع، وإن أصابته مصيبة تصيب الجميع. وانزعوا ما في صدوركم من غِلٍّ، وكونوا إخوانا على سرر متقابلين في هذه الدنيا، فتكونوا كذلك في الأخرى، ولا يتمُّ هَذَا إلاَّ بالأمر الثاني.

-      ثانيا: التخلِّي عن رذائل الأخلاق.

    كالحسد والحقد والكذب والاحتقار والإستئثار والبخل. والتحلِّي بفضائلها كالحلم والصدق والكرم والنصح والأخذ بيد العاثر والضعيف...ألخ

    لقد مرَّت عليكم دروس ضافية في الأخلاق يلين لها الحجر الجلمود، ويذوب لها قلب العنيد، فإذا لم تفتحوا لها قلوبكم وتنتهجوا سبيلها وتجعلوها أساسا لنهضتكم أُبتم بالخيبة، ورجعتم بصفقة المغبون وكان سعيكم على شفا جرف هار.

وإنَّما الأمم الأخلاق ما بقيت       فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

-      ثالثا: التفاني في سبيل مهنتكم والتفرُّغ لها.

    والمثابرة عليها بكلِّ جدٍّ من غير ضجر ولا ملل، فآفة العمل هي الملل، ولا يعوقنَّكم عنها حوادث الزمان، وما تقاسون في سبيلها من المتاعب والمشاق والمضض، فهي في الحقيقة راحة وهناء، ومن يعرف المطلوب يحقر ما بذل.

    ولا تحقروا أنفسكم وتمتهنوها فتئدوا نبوغكم بأيديكم، فإنَّ لكم استعدادا ومزابا كانت لمن حلَّق في جو السماء، وغاص في أعماق البحار، واتَّخذ سربا في أحشاء القفار، أَو تزيدون، ولم يمتازوا إلاَّ بالإرادة والعزيمة والثبات، فاثبتوا وثابروا فكلُّ من سار على الدرب وصل.

-      رابعا: صرف الشطر الأكبر من وقتكم في شحن أدمغتكم من مختلف الفنون.

    بقدر استعدادكم ومواهبكم، وفي الاعتناء بالحفظ ومطالعة نفائس الكتب حتَّى تحصلوا على مادَّة وافرة تستمدُّون منها لكتاباتكم، ولا تقتصروا على الكتابة فتضيِّعوا جلَّ أوقاتكم فيها، فإنَّ المعاني للألفاظ بمنزلة الروح للجسد، فإذا خلت كتابتكم من المعاني الرقيقة بقيت الألفاظ جوفاء لا قيمة لها، فالألفاظ أوعية تختلف قيمتها بحسب ما يوضع فيها من المعاني.

-      خامسا: استلفاتا للنظر، وتأكيدا لما مرَّ، ترديد النظر فيما سبق والتأمُّل فيه والعمل بمقتضاه، بكلِّ إخلاص وصدق ففيه سعادتكم وراحتكم وهناؤكم في الدارين.

    فهذه شذرات أمليتها عليكم ولا تنتظروا منِّي غيرها في العدد الآتي، فإنَّ الميدان يخصُّكم ولي مطالب تدعوني.

    وأخيرا أرفع أكفَّ الدعاء إلى الله، وأبتهل وأضرع إليه أن يمدَّكم بروح منه، ويسدِّد خطاكم، ويلحظكم بعين عنايته، ويوفقكم لِـما فيه رضاه، إنَّه سميع مجيب.

                                                                                  سعيد بن بالحاج شريفي (الشيخ عدُّون)

                                                                                من "مجلَّة الشباب" العدد الثاني 1927م

*المصدر: مجلَّة الحياة، العدد الأوَّل، 1998م.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق