السبت، 9 مارس 2019

كتابات أدبية: أيَّها المبدعون تحرَّروا


أيُّها المبدعون تحرَّروا


    في لقاء عملٍ مع مجموعة من المثقَّفين متعدِّدي التخصُّصات، من مختصٍّ في التاريخ، إلى مختصٍّ في علم النفس، إلى آخر في الأدب، إلى مختصٍّ في الشريعة، إلى مثقَّفين يُحسَبون على الموسوعية المفتوحة، أطلق أحدُ الأدباء الحاضرين وصفا جميلا على صوتِ أحد المنشدين بالصوتِ الملائكي. فعلَّق أحد الفقهاء الحاضرين أنَّ هذا الوصف لا يجوز شرعا، فدخلا في مناقشات تشعَّبت بها المتاهات استهلكت وقتا طويلا، قطعتُه بقولي: إنَّ التلاقي أو التفاهم بين الأديب والفقيه هو الذي لا يجوز، بل لا يستقيم، ولكلٍّ اختصاصه وملعبه، فللأديب حريَّة الفكر واتساع الأفاق، وللفقيه حدود النصوص وواقع الناس.

    ولـمَّا اقترح أحد الحاضرين وهو فنَّان يحمل ريشة تصوير ومحابر تلوين وموهبة إبداع، أن ينجز صورة بالمناسبة موضوع اللقاء، طلب منه الفقيه ألاَّ تكون صورة أنسانٍ أو حيوان، أو أيَّ مخلوق يحمل بين جنبيه روحا، لحرمة ذلك شرعا كما قال.
    وكنتُ أظنُّ أنَّ مثل هذه القيود محصورة في مثل هذه اللقاءات المحدودة، حيث تُقصُّ أجنحة المبدعين من الأدباء والفنَّانين بخلفيات شرعية، اختلف حولها الفقهاء، غير أنَّني وجدتُ في بني جلدتي سيفَ المنع، ومقصَّ الرقابة مسلَّطٌ على كلِّ ذِي موهبة إبداعية أودعها الله تعالى فيه، يريدون وضعه في بوتقة أو قالبٍ مغلَّفٍ بلباس الالتزام دينا ومجتمعا وعُرفا.
    فهُمِّشَ لدينا الأديبُ شاعرا ناظما، في غير المدحِ والرثاء والفخر والحماسة، فيكمِّمون الفمَ فيه، ويقطعون اللسانَ منه إن قال غزَلاً، أو وصفَ جمال بشَرٍ، أو تحرَّق عشقا بامرأة؛ ولو خيالا وإبداعا أدبيا فحسب.
وهُمِّشَ الأديبُ ناثِرا، يكتبُ في غير رسائل الشكرِ والمدح والتعازي، ويدبِّج خطابات الأفراح والملتقيات، فيكسِّرون منه اليراع، ويقطِّعون ما خطَّ من أوراقٍ وقراطيسَ إن كتبَ في الحبِّ والعِشقِ والغزَل.
وهُمِّشَ الأديبُ رسَّاما، يُبدع في رسمِِ غيرِ العمارةِ والطبيعة والأسواق، فيبترون ريشته ويهشِّمون لوحتَه إن رسمَ مشهدَ حبٍّ، أو جسمَ امرأة ولو للتعليمِ والتعلُّم.
    وأكثر من ذلك إيلاما، أن تُدفنَ مع المبدع الأديب الفنَّان إبداعاته مهما كانت راقية ورائعة، فقط ذنبه أنَّها خارجَ حجمِ القالبِ أو البوتقة المسموح بها اجتماعيا وعرفيا، حفاظا على سمعة الفنَّان والمجتمع؛ والمصيبة أن يصدُر ذلك في حقِّه من طرف أقرب الناس إليه.
    وفي الحقيقة، ليس للإبداع حدود، ولا أحجام، ولا قواعد، مهما كان مصدرها، ولا يجوز لحدٍ أن يجهض الإبداعات في أرحامِ أصحابها، أو أن يئدها بعد ميلادها، ولا أن يمنعها عن الظهور والانتشار والتقييم، فهي ملكُ صاحبها أوَّلا، ثم ملك الإنسانية وتراثها بعده.
    فهل ندركُ يوما يعيش فيه الأديبُ المبدعُ حرِّية حقَّةً مع نفسه وقومه ومحيطه. أتمنَّى أن يكون ذلك قريبا، إن تحرَّر الأديبُ وكسَّر القيود التي تكبِّله. فقد قال الشيخ بيوض يوما للشاعر الكبير مفدي زكرياء (رحمهما الله): -"أبدِع ولكَ الجنَّة"-.
فتحرَّروا أيُّها المبدعون

بقلم: يوسف بن يحي الواهج

هناك تعليق واحد:

  1. هل تقصد أن لا حدود ولا قيود في الفن والإبداع؟
    وما رأيك في الرسم الكاريكاتوري المسيئ أو الصورة المرسومة الفاضحة؟ هل لا يجوز للشرع والدين أن يقيدها ويضع لها الخطوط الحمراء؟ إن صح التعبير بين "يجوز" و"الشرع"
    شكرا على إبداعك في الوصف أولا...

    ردحذف