قبل أن نختم
يوميَّتنا الرمضاني هذه، يطيب لي أن أتحفكم قرَّائي الأعزاء بهذه الوقائع المضحكة
الجميلة، التي قام بها وطنيَّون مجاهدون، رغم جدِّية الموقف.
بودي الحاج حمودة
والآذان بغير
صلاة

وفي هذا الحصار، أخرج المستعمر
جميع رجال البلدة من شباب وكهول وشيوخ إلى محتشد خارج البلدة، في ساحة بودواية،
ولم يترك داخل المدينة إلاَّ الاطفال والبنات والنساء، وكان الأمر مقلقا جدًّا
وحرجا للغاية عند الرجال وأهل الحل والعقد في البلدة، مخافة أن يكتشف الجنود مخابئ
المجاهدين، أو يعيثوا ظلما وفسادا في أعراض وحرمات وأموال السكان.
أمام هذا الوضع المؤلم المزعج،
هبَّ فجأة الشيخ: الحاج حمُّودة بودي (رحمه الله) مؤذِّن البلدة
آنذاك من بين الشيوخ وأعيان البلدة، فتوجَّه إلى الضابط المكلَّف بحراسة المحتشد،
فقدَّم له نفسه على أنَّه مؤذِّن المدينة المكلَّف بالنداء للصلاة، وكان يتقن
اللغة الفرنسية، فقال:
- أنا مؤذِّن البلدة، وعليَّ أن أذهب إلى المسجد
للأذان.
أجابه الضابط قائلا:
- لا، لا، ودفعه إلى داخل المحتشد.
وأصرَّ الحاج حمُّودة بودي على
الذهاب قائلا:
- لا، بل يجب عليَّ الذهاب، فوقت الصلاة قد حان.
وأمام إصرار وإلحاح الشيخ على
الخروج من المحتشد، سأل الضابط قائد البلدة، الطالب عمر بودي (رحمه
الله) والقائد الحكيم الذي قدَّم للبلدة والثورة التحريرية الكثير:
- هل صحيح ما يقوله الرجل؟؟
أجابه القائد، وقد تفطَّن بدهائه
لحيلة وهدف المؤذِّن من إصراره على الأذان في غير وقته:
- نعم أيُّها الضابط، يجب أن يذهب للأذان.
فتحرَّر الشيخ من المحتشد مسرعا
إلى المسجد، وفي طريقه إليه لاحظ انتشار الجنود الفرنسيين في شوارع المدينة، فلاحظ
أنَّهم كلَّما دخلوا بيتا ليفتشوه، وضعوا على بابه عند خروجهم منه علامة x إشارة لغيرهم من الجنود على أنَّ البيت
قد تم دخوله وتفتيشه.
فارتقى بسرعة مأذنته، وصدح منها
بالأذان كعادته، كأنَّه ينادي إلى الصلاة المكتوبة، وبعده جمع بعض الأطفال الصغار
وأعطاهم الطباشير من نفس اللون الذي يستعمله الجنود، وعلَّمهم كيف يفعلون على
الأبواب التي لا تحمل علامة x، ففعل
الأطفال ما أمرهم الشيخ، فأنقذوا البلدة والمجاهدين المختبئين.
هذه واحدة من المكرمات والفضائل
الكثيرة المغمورة، التي قدَّمها الشيخ: الحاج حمُّودة بودي رحمه الله، أتمنَّى أن
يبعث الزمن يوما باحثا أو باحثين يهتمُّون بما قدَّمه المجاهدون المخلصون للوطن.
خاصَّة أولئك الذين غمرتهم المصالح الضيِّقة، وظلمتهم كتب التاريخ الرسمية،
وتجاهلهم المثقفون والكتَّاب والمؤرخون.
بقلم: يوسف بن
يحي الواهج
رعب الجندي الفرنسي
من أرشيف والدي العزيز رحمه الله، وبمناسبة
الذكرى الثامنة والخمسون لعيد الثورة الجزائرية: الفاتح نوفمبر 2012م؛ يطيب لي أن
أطلع إخواني الجزائريين من جيل الاستقلال، على فقرة من ورقة من هذا الأرشيف
الثمين.
وهي عبارة عن فقرة جاءت ردًّا على سؤال
وجَّهه الأستاذ محمد أبو الفتوح
المشرف على برنامج المغرب العربي بإذاعة القاهرة، إلى الدكتور الشاعر: صالح خرفي
رحمه الله، وكان ذلك في ندوة عقدها معه يوم: الثلاثاء 01 أكتوبر 1957م.
يوسف بن يحي الواهج
السؤال: بما أنّكم كنتم
في بدء الثورة في الجزائر، فهل تذكرون طرائف أو أحداث وقعت وأنتم هنالك.
بما أنكم قيدتموني بالطرائف، فلا بأس أن أذكر
على سبيل التفكُّه والضحك وإن كان في نظر فرنسا ضحك كالبكاء، أن أذكر أنني كنت
مارا بإحدى شوارع قسنطينة الرئيسية في بدء الثورة، هذه الشوارع التي ينبث فيها
الجنود الفرنسيون طولا وعرضا متأبطين رشاشاتهم، وصادف أن مرت بالشارع نفسه عجوز
بها خبل ومسّ، فصاحت في جندي من خلف (أوليما) فنفض الجندي يديه من الرشاش ورفعهما
إلى السماء منتظرا مصيره من الفلاَّﭬـِى الذي كان يظن أنه هو الذي صاح فيه. فكـان مسخرة
الجمـيع. ومن يومـه ذلك سمي بـ: أوليما (ho les mains)
وبباتنة في الجهة الشرقية من الجزائر كانت
فرقة عسكرية تتجوّل ليلا في شوارع المدينة للمحافظة على الأمن، ففوجئت بحركة قريبا
منها، فأطلقت أعنة المتـريات والرشاشات وملأت المدينة دويّا وفزعا وبعد انجلاء
المعركة تبين أن القائم بالحركة كلب كان مارا في ظلام الليل. ومع هذا لم تصبه أية
رصاصة.
من هاتين القصتين الطريفتين ندرك مدى الرعب
الذي كان يلاحق الجندي الفرنسي، ويتتبعه تتبع الظل في كل شبر من أرض الجزائر. هذا
في بدء الثورة والجنود الفرنسيون في جدتهم يشعرون بنشاط واندفاع، أما اليوم
والثورة تضع الجندي الفرنسي ذات اليمين والشمال، فلم يبق له إلا أن يلازم مراكزه
وتتفضل قوات جيش التحرير بغزوه في عقر داره، وقنبلة حتف أنفه.
صالح خرفي
أطفال المدارس يضحكون على المستعمر
في السنوات
التي كانت الثورة التحريرية الجزائرية قائمة على قدمٍ وساق في كلِّ الجزائر، شرقها
وغربها، وشمالها وجنوبها، ويشارك فيها الشعب الجزائري كاملا، بكلِّ أطيافه وفئاته،
من رجال ونساء، وكبار وصغار، كان هناك في المدنِ المزابية أطفال المدارس يرسمون
على صفحات سجلِّ الثورة الجزائرية مشاهدَهم المقاوِمة الثائرة ضد المستعمر
الفرنسي.
فكانوا عند
خروجهم من مدارسهم، سواء الحرَّة أو الرسمية منها، زمرا وجماعات وصفوفا يردِّدون
الأناشيد الوطنية الفصيحة، الصادحة بالدعوة الصريحة إلى الجهاد ومكافحة الاستعمار،
ونبذ المذلة والمهانة والعيش تحت ظل مغتصب الأوطان. مثل:
|
نَــــــــــغَــــمُ
الإِســـــــــــــــــــلام الحَـــــــــانِـي
|
|
بَـــــــــــــــــــــــــلَــدُ
الإِسْــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــلامِ
|
|
الــــــــــــــــــــــــــــــوَطَـــن
لَــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــنَــــــــا
|
والمشهد
الجميل المضحك فعلا، هو ذلك الذي يصطفُّ فيه التلاميذ أمام أساتذتهم، وعلى رأسهم
المدير الفرنسي لمدرسة النخيل بمدينة بريان، يقفون صفوفا احتفالا بأحد
المناسبات الوطنية لفرنسا (العيد الوطني-عيد العمَّال) فينشدون نشيدا نظم كلماته
الشاعر الكبير: إليا أبو ماضي، بلحنِ النشيد الوطني الفرنسي: لاَمَرْسَياز.
فيرفع المدير
الفرنسيُّ ومعلِّموه يمينهم مبايعين، وهم وافقين على هيئة الاستعداد العسكرية،
احتراما لنشيدهم الوطني، والأطفال فرحين مسرورين على فعلتهم الجميلة هذه، وهم
يردِّدون كلمات إليا أبو ماضي القائلة:
أوطَـــــانُــــنَــا وَهـــي الغَــــــــــــــــــــــــــــوَالي
|
|
أَرْوَاحُـــــــــــنَـــا لَــــــــــــــــهَـــا
ثَـــــــــــــــــــمَــــن
|
وَإِنَّــــــمَا أَحْــــــــيَــا
المَـــعَـــــــــــــــــــــــــــالِي
|
|
مَـــنْ مَـــــــاتَ في حُـبِّ الـــــــــوَطَـــن
|
بقلم يوسف بن يحي الواهج.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق