
وكان أقسى
هذه الرسائل، تلك المؤرَّخة في الأول من شهر جويلية 1937م، التي وصلته وهو في أوج
نشاطه في حزب الشعب الجزائري، تحمل الكثير من اللوم والتوبيخ على عدم الوفاء
بوعوده وعهوده التي قطعها له في مراسلاته العديدة، بترك العمل السياسي والنشاط
المنبري.

-
حتَّى إذا قال لك أحدهم: لماذا تركتَ العمل السياسي؟
-
وأجبتَه: فعلتُ ذلك طاعة لوالدي، عذركَ.
ثمَّ هدَّده
بأنَّه إن لم يترك هذه السيرة الفاسدة، سيقطع صلته به نهائيا،
-
فلتقل: إنَّ أبي ماتَ،
-
وأنا أقول: إنَّ ابني ماتَ،
وفي
آخر الرسالة تماما: إن لم تنزع عن هذا السبيل فإنِّي أكبِّر عليكَ أربع
تكبيرات."
وكان وقع هذه
الرسالة في قلب مفدي زكرياء شديد جدًّا، جعله يكتب رسالة بعد ثلاثة أيَّام من
رسالة والده تلك، إلى أحد أصدقاء والده ومعارفه، الذي يتمتَّع بمكانة مرموقة لدي
اليسجنيين كما كلِّ المزابيين، وهو السيِّد: زكري بن سعيد، قال فيها:
"وبعد،
إنَّني أوجِّه إليكم داخل هذا رسالة أرسلها لي والدي سليمان بن يحي ـــــ عفا الله
عنه ـــــ كتبها ــــــ ولا شك ـــــ تحت تأثير بعض المغرضين، سماسرة الفتنة
والفساد، ولستُ أدري لماذا هذا التحامل والتداخل في حياتي العامة، التي أرى أن
أكون فيها حرًّا، لا يتصرَّف أحدٌ في أفكاري؟ ولأجل هذه الحرية، حرية الرجولة نحن
نكابد ونجاهد.
إنَّ أبي
يريدني أن أكون عضوا أشلَّ في المعترك الحيوي، وأنا لا أريد هذه الحياة، ولم أخلق
لها، وإنَّما خلقت لأن ادافع عن بلادي، وأشترك في صفِّ الجهاد والعمل في هذه
الحياة، والسعي لخير بني جنسي، وللإسلام عموما، ولم أخلق لأعيش عيشة الخمود
والاستكانة والموت. وإنني لا أتأخر عن الجهاد ولو كانت الارض كلها ضدي، وعوض أن
يعينني بدعائه الصالح، ويأمرني بالصبر والجهاد، فهو يهدِّدني، ويتوعَّدني، ويريد
أن ألبس لباس الحداد.
إنَّه لم يجدني
يوما من الأيام ملتبسا بجريمة، أو منتهكا لحرمة، أو متعدِّيا على حدٍّ من حدود
الله، وإنَّما ذنبي الوحيد هو أنَّني حيٌّ، متيقِّظ، ناهض، ولست جامدا، خامدا،
جبانا.
أرجوكم أن
تفهموه ـــــــ حفظكم الله ــــــ حقيقة أعمالي، وإذا أراد أن يبقى على أفكاره، فاتركوه،
فإنِّي سأقطع كلَّ علاقة بميزاب، سواء كانت عائلية أو غير عائلية، وسأسيح في أرض
الله مجاهدا عن بلادي ووطني، والله يعلم خائنة الأعين، وما تخفي الصدور.
وإنَّني أترقَّب
جوابكم ـــــ حفظكم الله ـــــ، لأنظر لنفسي أيَّ طريق أسلك، فلست أنا أوَّل ضحية
من ضحايا جنايات الآباء على الأبناء، وعند الله تجتمع الخصوم."

اللهمَّ اغفر لي تقصيري في حقِّ ديني ووطني وأمَّتي.
بقلم: يوسف بن يحي الواهج
ملاحظة:
مصدر ما جاء في هذا المقال، كتاب: مفدي زكرياء، للدكتور:
مصطفى بن الحاج بكير حمودة، الجزء الأوَّل، صفحات: 327، 328، 329.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق