الاثنين، 4 يونيو 2018

اليومية الرمضانية 2018م: باسليمان إبراهيم بن سليمان لمنوَّر


باسليمان إبراهيم بن سليمان لمنوَّر
  

    إبراهيم بن سليمان باسليمان، المشهور بلقب "لَمنَوَّرْ"، ولد بمدينة بريان، من ولاية غرداية سنة: 1902م، من أبوين صالحين، ربَّياه تربيةً صالحة مؤسَّسة على تقوى الله تعالى والعمل الصالح الجادِّ، والخلق الكريم، ونفع خلق الله، والعمل للصالح العامِّ دينا ومجتمعا ووطنا.
    زاول بدايات تعلُّمه في مسقط رأسه بريان، ومنها انتقل إلى ميدان العمل بمدينة البليدة، فكانت البداية من التجارة التي تعلَّم فيها الصدق في الحديث، والأمانة في المعاملة، ودماثة الأخلاق، والابتسامة الدائمة؛ ولم يكن أثناء ذلك مجرَّد عامل يقوم ويقعد، يغدو ويروح، يأخذ ويعطي، يتلقَّى الأوامر وينفِّذها، بل كان الانسان الذي يحمل في رأسه عقلا يفكِّر، وبين جنبيه قلبا مليئا بالمشاعر، وتحت حاجبيه عينين تريان وتزنان الأمور من حوله.
    فكان يقف أمام المتجر كلَّ بكرةٍ يتأمَّل القوافل من البنين والبنات يتَّجهون نحو المدارس والمعاهد، ومثل يشهده عند المساء، فيستعرض أثناء ذلك بين ناظريه أبناءَ جِلدته بمسقط رأسه، الذين حُرموا مثل هذه الفرص من للعلم والتعلُّم، ويتخيَّل بلدته وأبناءها بمثل هذه القوافل الغادية خماصا تطلب علمًا، والرائحة بطانًا عند المساء تعيش نور العلم وتعمل بنوره وهديه.

    كما كان يتألَّم عندما تقع عينيه على مشهد من مشاهد الظلم والقهر والغطرسة التي يمارسها الرجل الأوروبِّي والمرأة الأوروبِّية الوافديْنِ على الجزائر استعمارا للأرض وهتكا للعرض، وإذلالا للبشر، بكلِّ وحشيَّة وغطرسة غابية حيوانية.
    خاصَّة عندما يرى عمليَّة وحشية لاعتقال أو ضرب أحد المواطنين أو المواطنات، من طرف فرنسي أو فرنسيٍّ، أو إزهاق روحٍ جزائريَّة من طرف أحد المستعمرين، دونَ أن يحاسبهم أو يسائلهم نظام أو قانون على ذلك.
    فكان بالمناظر الأولى يكرهُ الجهلَ والتخلُّف، ويتمنَّى أن يرى مثل تلك القوافل من تلاميذ المدارس في بلده من أبناء مجتمعه، فكان من أكبر الدعاة إلى طلب العلم والتعلُّم وتنوير العقول قبل ملء البطون.
    لهذا نجده من المؤسِّسين المتحمِّسين جدًّا لتأسيس المدارس الحرَّة، التي تعلِّم اللغة العربية، والدين الإسلامي، والتاريخ والأدب وما يرفع من مستوى الانسان الجزائري؛ فكان من مؤسِّسي المدرسة الحرَّة بالبليدة في الأربعينيات من القرن الماضي؛ كما كان من مؤسِّسي مدرسة أخرى مثلها في بئر مراد رايس بالعاصمة.
    وكان أوَّل من دفع بابنته إلى مقاعد التعليم ببريان، في تحدٍّ كبير للمجتمع الذي كان يعارض تعليم البنت تعليما عصريًّا، فوضع ابنته بين أترابها التلاميذ متحدِّيا العرف الذي يفصل بن الجنسين في التعليم إلى يومنا هذا؛ وأمام هذا الإصرار الكبير للحاج إبراهيم باسليمان لم يجد أهل الحلِّ والعقد في البلدة إلاَّ تبنِّي تعليم البنت، فخصَّصت أقساما خاصَّة بالبنين تحت إدارة معلِّم صالحٍ كفء. وبهذا كانت بنت إبراهيم باسليمان لمنَوَّر أوَّل فتاة تدخل مدرسة عصرية في وادي مزاب كلِّه.
    أمَّا المشاهد الثانية فقد جعلته يكره الظلم وتعدِّي الانسان على أخيه الانسان، فكرهَ أوَّلا المستعمر كرها كبيرا، وثار على كلِّ مظاهر الظلم مهما كان مصدره. فكان من المناصرين الأوائل لحزب نجم شمال أفريقيا، لأنَّه كان يدعو صراحةً وعلنا إلى الثورة على الاستعمار الفرنسي الغاشم.
    وكان من المنخرطين الأوائل في جبهة التحرير الوطني وعناصرها الأساسيين في عدَّة جبهات، خاصَّة في جبهة التموين، والتمويل، وجمع ونقل السلاح والجنود، مسخِّرا كلَّ إمكانياته في خدمة الوطن والثورة التحريرية. يقول عنه الأستاذ: حمُّو عيسى النوري في كتابه: دور الميزابيين في تاريخ الجزائر قديما وحديثا:
    -" كان منذ أوائل الثورة من الشخصيات القويَّة القائمة بأعمال جليلة للثورة في نشاط وحماس بين سمع العدوِّ وبصره، وقام بإيواء الجنود في محلِّه وينقلهم في شاحنته إلى مختلف المراكز في قلب الصحراء، وبتجنيد الشباب والتوعية.".
    ولم يكتف (رحمه الله) بنفسه التي قدَّمها فداء للوطن، بل دفع بأولاده إلى جبهة التحرير وخدمة الوطن والمجتمع وإعلاء كلمة الله تعالى، فابنه البكر سليمان كان إضافة إلى جهاده في صفوف جيش التحرير، من مؤسِّسي الأفواج الأولى للكشَّافة الإسلامية الجزائرية بقسنطينة؛ وابنه قاسم كان من أبرز المجاهدين إبَّان الثورة التحريرية المظفَّرة؛ ومحمَّد كان ولا يزال من عشَّاق العلمِ ومحبِّيه وخدَّامه مثل والده (رحمه الله).
    فلم يكن من الغريب أن يتعرَّض مثل هذا الرجل العظيم إلى مراقبة ومضايقة السلطة الاستعمارية آنذاك، فخضع أكثر من مرَّة للمساءلة والمحاكمة والغرامات العديدة، فشاء الله تعالى أن تكون نهاية مسيرته النضالية الجهادية المباركة على يد المستعمر قتلا في زنزانة السجن بالأغواط رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جنانه.
....تَــــــتـــبَــع:

مع تحيَّات: يوسف بن يحي الواهج

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق